الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1884 1885 ص: وذهب آخرون في صلاة الخوف إلى ما حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا قبيصة ، قال: ثنا سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، قال: "صلى النبي - عليه السلام - الظهر بعسفان، والمشركون بينه وبين القبلة فيهم أو عليهم خالد بن الوليد، ، فقال المشركون: لقد كانوا في صلاة لو أصبنا منهم لكانت الغنيمة، فقال المشركون إنها ستجيء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، قال: ونزل جبريل - عليه السلام - بالآيات فيما بين الظهر والعصر، قال: فصلى النبي - عليه السلام - العصر وصف الناس صفين، فكبر وكبروا معه جميعا، ثم ركع وركعوا معه جميعا، ثم رفع ورفعوا معه جميعا، ثم سجد وسجد معه الصف الذين يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع ورفعوا، ثم سجد الصف الآخر، ثم رفعوا، وتأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر، فكبر وكبروا معه جميعا، ثم ركع وركعوا معه جميعا، ثم رفع ورفعوا معه جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذين يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع ورفعوا جميعا، ثم سجد الصف المؤخر، ثم سلم عليهم، وصلاها مرة أخرى في أرض بني سليم".

                                                [ ص: 260 ] وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل ، قال: ثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - عليه السلام -: "أنه صلاها ... " فذكر نحو هذا.

                                                وكان ابن أبي ليلى ممن ذهب إلى هذا الحديث، وتركه أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ؛ رحمهما الله; لأن الله -عز وجل- قال: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك

                                                ففي هذا الحديث أنهم صلوا جميعا، وفي حديث ابن عمر، 5 وعبيد الله بن عبد الله، ، عن عبد الله بن عباس، وفي حديث حذيفة 5 وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - دخول الطائفة الثانية في الركعة الثانية ولم يكونوا صلوا قبل ذلك، فالقرآن يدل على ما جاءت به الرواية عنهم عن النبي - عليه السلام - في ذلك، فكانت عنده أولى من حديثي أبي عياش وجابر بن عبد الله هذين.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي ذهب قوم آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبا يوسف في رواية، فإنهم ذهبوا في كيفية صلاة الخوف إلى حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله في حديثه الذي نحوه.

                                                أما حديث أبي عياش فأخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت ، عن قبيصة بن عقبة السوائي ، عن سفيان الثوري ، عن منصور بن المعتمر ، عن مجاهد بن جبر ، عن أبي عياش -بالياء المشددة آخر الحروف وفي آخره شين معجمة، قيل اسمه: زيد بن الصامت، وقيل: زيد بن النعمان، وقيل: عبيد، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية- ابن الصامت، شهد مع النبي - عليه السلام - بعض غزواته.

                                                وأخرجه أبو داود : نا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة. فنزلت آية القصر بين الظهر

                                                [ ص: 261 ] والعصر، فلما حضرت العصر، قام رسول الله - عليه السلام - مستقبل القبلة والمشركون أمامه، فصف خلف رسول الله - عليه السلام - صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله - عليه السلام - وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذين بإزائه، وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا; سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - عليه السلام - وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله - عليه السلام - والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعا، فسلم عليهم جميعا، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم".


                                                وأخرجه النسائي ، والإمام أحمد والبيهقي وقال: هذا إسناد صحيح إلا أن بعض أهل العلم بالحديث يشكك في سماع مجاهد من أبي عياش .

                                                ثم ذكر الحديث بإسناد جيد، عن مجاهد، قال: ثنا أبو عياش، وبين فيه سماع مجاهد من أبي عياش، وبهذه الصورة أخذ سفيان الثوري .

                                                ولما أخرج أبو داود حديثه قال: وهو قول الثوري .

                                                وهو أحوط الصور، وإنما كانت أحوط الصور لأنها رويت بطرق كثيرة، والفقهاء لما رجح بعضهم بعض الروايات على بعض احتاجوا إلى ذكر سبب الترجيح، فتارة يرجحون بموافقة ظاهر القرآن، وتارة بكثرة الرواية، وتارة بكونها موصولا وبعضها موقوفا، وتارة بالموافقة للأصول في غير هذه الصلاة، وتارة بالمعاني، كما أن أبا حنيفة اختار حديث ابن عمر وروايته; لأنها توافق الأصول في أن قضاء الطائفة بعد سلام الإمام.

                                                [ ص: 262 ] وإلى هذا المعنى أشار الطحاوي بقوله: "وتركه أبو حنيفة ومحمد". أي تركا الحديث المروي عن أبي عياش وجابر نحوه; لأن فيه مخالفة لظاهر القرآن; لأن الله تعالى قال: ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فهذا يقتضي أن يكون القوم طائفتين: طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، وعلى ما ذهب إليه الثوري وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي يكون القوم جميعهم يفتتحون الصلاة مع الإمام، فهذا خلاف ظاهر القرآن، والذي يوافق ظاهر القرآن هو حديث عبد الله ابن عمر، وحديث عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس، وحديث حذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -، فلذلك كانت أحاديث هؤلاء عنده -أي عند أبي حنيفة- أولى من حديثي أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله هذين، وأشار به إلى المذكورين من حديثيهما.

                                                وأما حديث جابر فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر بن عبد الله عن النبي - عليه السلام -.

                                                ولما أخرج أبو داود حديث أبي عياش الزرقي قال: وروى أيوب وهشام ، عن أبي الزبير ، عن جابر هذا المعنى عن النبي - عليه السلام -، وكذلك رواه داود بن حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس، وكذلك عبد الملك ، عن عطاء ، عن جابر، وكذلك قتادة ، عن الحسن ، عن حطان ، عن أبي موسى فعله، وكذلك عكرمة بن خالد ، عن مجاهد ، عن النبي - عليه السلام -، وكذلك هشام بن عروة ، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام -.

                                                قلت: رواية عكرمة وعطاء موقوفة، ورواية مجاهد وعروة مرسلة، فالحاصل أن الحديث المذكور روي بطرق مختلفة ما بين مرفوع وموقوف ومرسل.

                                                [ ص: 263 ] قوله: "بعسفان" بضم العين وسكون السين المهملة وبالفاء بعدها ألف ثم نون، وهي قرية جامعة بها منبر، على ستة أميال من مكة، وذكرت في كتاب "البلدان" أنها على مرحلة من خليص في الجنوب، ومن عسفان إلى بطن مر ثلاثة وثلاثون ميلا، وسميت عسفان لتعسف السيول فيها، وكانت صلاته - عليه السلام - بعسفان صلاة الخوف سنة أربع من الهجرة، وكانت هي غزوة بني لحيان، وهكذا ذكر البيهقي في "الدلائل".

                                                وأما ابن إسحاق فإنه ذكر أنها كانت في جمادى الأولى من سنة ست للهجرة بعد الخندق وبني قريظة، وهو الأشبه مما ذكره البيهقي .

                                                وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان ، عن وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله قال: "أول ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان بينهما أربع سنين" قال: وهذا عندنا أثبت.

                                                قوله: "فيهم" أي: في المشركين.

                                                قوله: "أو عليهم" شك من الراوي، أي: أو على المشركين.

                                                قوله: "بالآيات" أراد بها آيات القصر وهي قوله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض الآية، وقال علي - رضي الله عنه -: "نزل قوله تعالى: إن خفتم بعد قوله: أن تقصروا من الصلاة بسنة في غزوة بني أسد; صلى رسول الله - عليه السلام - الظهر قال بعضهم: هلا شددتم عليهم وقد أمكنوكم من ظهورهم؟ فقالوا: بعدها صلاة أحب إليهم من آبائهم وأولادهم; فنزل إن خفتم إلى قوله: عذابا مهينا ليشرع صلاة الخوف".

                                                قوله: "وصلاها مرة أخرى في أرض بني سليم" وسليم -بضم السين- قبيلة من قيس غيلان، وهو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس غيلان، وسليم أيضا قبيلة في جذام من اليمن.




                                                الخدمات العلمية