الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1887 ص: وقد كان أبو يوسف -رحمه الله- قال مرة: لا تصلى صلاة خوف بعد النبي - عليه السلام -، وزعم أن الناس إنما صلوها لفضل الصلاة معه، وهذا القول عندنا ليس بشيء; لأن أصحاب النبي - عليه السلام - قد صلوها بعده، قد صلاها حذيفة بطبرستان، وما في ذلك فأشهر من أن نحتاج إلى أن نذكره هاهنا.

                                                فإن احتج في ذلك بقوله: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية، فقال: إنما أمر بذلك إذا كان فيهم، فإذا لم يكن فيهم انقطع ما أمر به من ذلك.

                                                قيل له: فقد قال -عز وجل-: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم الآية. فكان الخطاب ها هنا له - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمع أن ذلك معمول به بعده كما كان يعمل به في حياته.

                                                [ ص: 269 ] ولقد حدثني ابن أبي عمران أنه سمع أبا عبد الله محمد بن شجاع الثلجي يعيب قول أبي يوسف هذا فيقول: إن الصلاة مع النبي - عليه السلام - وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعا فإنه لا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بكلام يقطعها، ولا ينبغي أن يفعل فيها شيئا لا يفعله في الصلاة مع غيره، وأنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره من الأحداث كلها، فلما كانت الصلاة خلفه لا يقطعها الذهاب والمجيء واستدبار القبلة إذا كانت صلاة خوف، كانت خلف غيره أيضا كذلك، والله أعلم.

                                                التالي السابق


                                                ش: قد ذكرنا أن أبا يوسف روي عنه ثلاث روايات في صلاة الخوف إحداها أنه قال: لا تصلى بعد النبي - عليه السلام - لأنهم إنما صلوها لأجل فضل الصلاة معه; إذ الفضل الذي يكون وراءه لا يوجد في الصلاة وراء غيره، فلا تصلى بعده إلا بإمامين; لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول، فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة ونحوها مما هو مناف للصلاة.

                                                وقال الطحاوي: هذا القول عندنا ليس بشيء; لأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد صلوها بعده - أي بعد النبي - عليه السلام - منهم حذيفة بن اليمان قد صلاها بطبرستان.

                                                وروى البيهقي من حديث إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سليم بن عبد السلولي قال: "كنت مع سعيد بن العاص بطبرستان وكان معه نفر من أصحاب النبي - عليه السلام -، فقال لهم سعيد: أيكم شهد مع رسول الله - عليه السلام - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، مر أصحابك فليقوموا طائفتين ... " الحديث، وقال الذهبي: سليم لا يعرف.

                                                وأخرج عن مسلم ، عن عبد الصمد بن حبيب ، عن أبيه: "أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة كابل، فصلى بهم صلاة الخوف".

                                                [ ص: 270 ] وعن أبي جعفر الرازي ، عن قتادة ، عن أبي العالية قال: "صلى بنا أبو موسى بأصبهان صلاة الخوف".

                                                وعن أبي جعفر الباقر : "أن عليا - رضي الله عنه - صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير".

                                                وكذلك روى عن جماعة من الصحابة جواز فعلها بعد النبي - عليه السلام - منهم: ابن عباس ، وابن مسعود وزيد بن ثابت، وآخرون من غير خلاف يحكى عن أحد منهم، ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه.

                                                قوله: "فإن احتج في ذلك" أي فإن احتج أبو يوسف فيما ذهب إليه من منعه صلاة الخوف بعد النبي - عليه السلام - بقوله تعالى: وإذا كنت فيهم وذلك أن الله تعالى قد خص هذه الصلاة بكون النبي - عليه السلام - فيهم، فإذا خرج من الدنيا عدم الشرط، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط.

                                                وأجاب عنه بقوله: "قيل له" أي: لأبي يوسف، وتقريره أن يقال: إن الآية ليس فيها أن الرسول إذا لم يكن معهم لا تجوز، ألا ترى إلى قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة الآية، فإنه لم يوجب كون النبي - عليه السلام - مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده، وقد أجمعوا أن ذلك معمول به بعده كما هو معمول به في حياته، وكذلك قوله: إذا جاءك المؤمنات يبايعنك وقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم ففي هذه الآيات تخصيص النبي - عليه السلام - بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم; لأنهم قائمون مقامه; فكأنه - عليه السلام - فيهم.

                                                [ ص: 271 ] قوله: "ولقد حدثني ابن أبي عمران ... " إلى آخره. إشارة إلى أن النظر والقياس أيضا يقتضي جوازها بعد النبي - عليه السلام -، ووجهه ظاهر.

                                                وابن أبي عمران هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي الثقة الثبت، وأبو عبد الله محمد بن شجاع البغدادي المشهور بابن الثلجي -بالثاء المثلثة وبالجيم - من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي العابد الزاهد رحمهم الله.




                                                الخدمات العلمية