الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1891 ص: حدثنا عبد الرحمن بن الجارود -وهو أبو بشر البغدادي- قال: ثنا سعيد بن كثير، قال: ثنا سليمان بن بلال ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، أنه سمع أنس بن مالك يذكر: "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله - عليه السلام - قائم يخطب، فاستقبل النبي - عليه السلام - قائما، ثم قال: يا رسول الله - عليه السلام -، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا. فرفع النبي - عليه السلام - يديه فقال: اللهم اسقنا. قال أنس: : فوالله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، قال: فوالله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من الباب في الجمعة المقبلة، والنبي - عليه السلام - يخطب الناس،

                                                [ ص: 279 ] فاستقبله قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكها عنا. فرفع النبي - عليه السلام - يديه وقال: اللهم حولنا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب. . قال: فأقلعت، وخرج يمشي في الشمس".


                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وسعيد بن كثير بن عفير أبو عثمان المصري شيخ البخاري .

                                                والحديث أخرجه البخاري : ثنا محمد بن سلام، نا أبو ضمرة، نا شريك ابن عبد الله بن أبي نمر، أنه سمع أنسا يذكر: "أن رجلا دخل يوم الجمعة ... " إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: "فادع الله أن يغيثنا" وقوله: "اللهم اسقنا" ثلاث مرات، وفي آخره: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس" قال شريك: فسألت أنسا: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري". وللبخاري فيه روايات متعددة.

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -قال يحيى: أنا، وقال الآخرون: ثنا- إسماعيل بن جعفر ، عن شريك بن أبي نمر ، عن أنس بن مالك: "أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله - عليه السلام - قائم يخطب ... " إلى آخره نحو رواية البخاري، غير أن في لفظه: "اللهم أغثنا" ثلاث مرات موضع قوله: "اللهم اسقنا"، وفي لفظه أيضا: "اللهم حولنا" كرواية الطحاوي، وليس فيها ذكر الجبال.

                                                وأخرجه أبو داود والنسائي أيضا.

                                                [ ص: 280 ] قوله: "من باب كان وجاه المنبر" بضم الواو وكسرها، قال ابن التين: يعني مستدبر القبلة.

                                                قلت: إن كان يريد بالمستدبر المنبر فصحيح، ولكن لا معنى لذكره، وإن كان أراد الباب فلا يتجه لباب يواجه المنبر أن يستدبر القبلة.

                                                وقوله في رواية مسلم: "من باب كان نحو دار القضاء" قال عياض: دار القضاء; سميت بذلك لأنها أبيعت في قضاء دين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، كان أنفقه من بيت المال وكتبه على نفسه، وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله فإن عجز ماله استعان ببني عدي ثم بقريش، فباع عبد الله هذه الدار لمعاوية وقضى دينه، وكان ثمانية وعشرين ألفا، فكان يقال لها: دار قضاء دين عمر بن الخطاب، ثم اختصروا فقالوا: دار القضاء. وهي دار مروان بن الحكم، وقيل: هي دار الإمارة.

                                                قلت: الصحيح أن دينه كان ستة وثمانين ألفا.

                                                قوله: "وانقطعت السبل" أراد: الطرق، وفي رواية: "تقطعت السبل"، وقال ابن التين: والأول أشبه.

                                                واختلف في معناه، فقيل: ضعفت الإبل لقلة الكلأ أن يسافر بها، وقيل: إنها لا تجد في سفرها من الكلأ ما يبلغها، وقيل: إن الناس أمسكوا ما عندهم من الطعام ولم يجلبوه إلى الأسواق.

                                                قوله: "فادع الله يغثنا" يجوز فيه الأوجه الثلاثة.

                                                الأول: بالجزم لأنه جواب الأمر.

                                                والثاني: بالرفع على تقدير: هو يغيثنا.

                                                والثالث: بالنصب بتقدير "أن" كما في رواية البخاري "أن يغيثنا" وهو بضم الياء.

                                                و"اللهم أغثنا" بالألف من أغاث يغيث، والمشهور في كتب اللغة أنه يقال في المطر: غاث الله الناس والأرض يغيثهم، بفتح الياء.

                                                [ ص: 281 ] قال عياض: قال بعضهم: هذا المذكور في الحديث من الإغاثة بمعنى المعونة، وليس من طلب الغيث.

                                                قال أبو الفضل: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث أي هب لنا غيثا، أو ارزقنا غيثا، كما يقال: سقاه وأسقاه أي: جعل له سقيا على لغة من فرق بينهما.

                                                ويقال: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "اللهم أغثنا" أي: فرج عنا وأدركنا.

                                                وقال القزاز: غاثه يغوثه غوثا وأغاثه يغيثه إغاثة، فأميت غاث واستعمل أغاث وفي "النبات" لأبي حنيفة: وقد غيثت الأرض فهي مغيثة ومغيوثة.

                                                وقال أبو الحسن اللحياني: أرض مغيثة ومغيوثة أي: مسقية.

                                                وفي "المحكم": أغاثه وغاثه غوثا وغياثا، والأول أعلى: ويقول الواقع في بلية: اللهم أغثني أي: فرج عني.

                                                وقال الفراء: الغيث والغوث متقاربان في المعنى والأصل.

                                                وفي "المطالع": والغيث المطر، وقد يسمى الكلأ غيثا كما سمي سماء، وغيثت الأرض فهي مغيثة.

                                                قوله "ولا قزعة" بفتح القاف والزاي المعجمة والعين المهملة مثل شجرة، وهي قطعة من السحاب رقيقة كأنها ظل إذا مرت من تحت السحاب الكثير. وقال أبو حاتم: القزع السحاب المتفرق، وعن الباهلي يقال: ما على السماء قزعة أي: شيء من غيم.

                                                قوله: "سلع" بفتح السين المهملة وسكون اللام بعدها عين مهملة، قال ابن قرقول: هو جبل بشرق المدينة، ووقع عند أبي سهل بفتح اللام وسكونها، وذكر أن بعضهم رواه بغين معجمة، وكله خطا.

                                                وقال في "المحكم": سلع موضع. وقيل: جبل، وقال البكراوي هو جبل متصل بالمدينة، وقال الجوهري: السلع جبل بالمدينة، وزعم الهروي أن سلعا معرفة لا يجوز إدخال الألف واللام عليه، ويعارضه ما في "دلائل النبوة" للبيهقي و"الإكليل" للحاكم وكتاب أبي نعيم الأصبهاني: "فطلعت سحابة من وراء السلع".

                                                [ ص: 282 ] قوله: "ثم أمطرت" يقال: مطرت السماء تمطر ومطرتهم تمطرهم مطرا، وأمطرتهم: أصابتهم بالمطر، وأمطرهم الله: في العذاب خاصة.

                                                وقال الفراء: قطرت السماء وأقطرت مثل مطرت وأمطرت.

                                                وفي "الجامع": مطرت السماء تمطر مطرا أو مطرا، فالمطر بالسكون المصدر، والمطر الاسم، وفيه لغة أخرى مطرت تمطر مطرا وكذا أمطرت السماء تمطر.

                                                وفي "الصحاح": مطرت السماء، وأمطرها الله، وناس يقولون: مطرت السماء وأمطرت بمعنى.

                                                قوله: "ما رأينا الشمس سبتا" بسين مهملة مفتوحة بعدها باء موحدة ساكنة ثم تاء مثناة من فوق، وعند الداودي: "ستا" بسين مكسورة، وفسره: ستة أيام، ووهم في ذلك، وليس جيدا، بل الواهم من وهمه; لأن في "الصحيح": "فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى" فهذا يبين صحة ما ذهب إليه الداودي ويوهن قول من قال: أراد بالسبت القطعة من الزمان; لأنه قال: أصل السبت: القطع، وإنما أراد: اليوم المسمى بالسبت.

                                                قوله: "اللهم حولنا" وكذا في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: "حوالينا" وهو ظرف متعلق بمحذوف تقديره: اللهم أنزل -أو أمطر- حولنا ولا تنزل علينا.

                                                قلت: حاصل المعنى: أنزله حوالي المدينة حيث مواضع النبات، فلا تنزله علينا في المدينة ولا في غيرها حيث الأبنية والمساكن.

                                                يقال: رأيت الناس حوله وحواليه وحواله وحوليه أي: مطيفين به من جوانبه، وهو من الظروف اللازمة للإضافة.

                                                وقال ركن الدين شارح "مختصر ابن الحاجب": ومن الظروف اللازمة للإضافة: حوال وتثنيته، وحول وتثنيته، وجمعه، نحو: أمشي حوله، وقوله - عليه السلام - "حوالينا

                                                [ ص: 283 ] ولا علينا" وقوله تعالى: فلما أضاءت ما حوله وأمشي حوليه وأحواله.

                                                قوله: "على الآكام" بالفتح والمد جمع أكمة وهي الموضع الغليظ لا يبلغ أن يكون حجرا يرتفع ما حوله.

                                                وقال الخليل: هو تل من حجر واحد، ويقال إكام بكسر الهمزة، وأكم وأكم بفتحهما وضمهما.

                                                وقال الجوهري: الأكمة معروفة والجمع أكمات وأكم، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال، وجمع الإكام أكم مثل: كتاب وكتب، وجمع الأكم آكام مثل عنق وأعناق.

                                                قوله: "والظراب" بكسر الظاء المعجمة، قال القزاز: هي جمع ظرب -ساكن الراء- جبل متوسط على الأرض، وقيل: هو الظرب على فعل، ويقال: ظراب وظرب كما يقال: كتاب وكتب، ويخفف فيقال: ظرب، ويقال: وأصل الظراب ما كان من الحجارة أصله ثابت في جبل أو أرض خربة، وكان أصله الناتئ محددا، وإذا كان خلقة الجبل كذلك سمي ظربا، وفي "المحكم": الظرب كل ما نتأ من الحجارة وحد طرفه، وقيل: هو الجبل الصغير.

                                                وفي "المنتهى" للبرمكي: الظراب الروابي الصغار دون الجبل، وفي "الغريبين": الأظرب جمع ظرب.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                استحباب قيام الخطيب في الخطبة يوم الجمعة، والخطبة على المنبر أو على موضع مرتفع، وطلب الدعاء في المهمات من الصلحاء والزهاد، ومواجهة الخطيب إلى الناس، ورفع اليدين في الدعاء، وقد اختلف العلماء فيه، فكرهه مالك في رواية، وأجازه غيره في كل الدعاء، وبعض العلماء جوزه في الاستسقاء فقط.

                                                [ ص: 284 ] وقال جماعة من العلماء: السنة في دعاء رفع النبلاء أن يرفع يديه ويجعل ظهرهما إلى السماء، وفي دعاء سؤال شيء وتحصيله يجعل بطنهما إلى السماء، وقد روي أحاديث في السنن في رفع اليدين.

                                                وفيه: كون الخطبة قبل الصلاة.

                                                واستدل به أبو حنيفة على أن الاستسقاء دعاء واستغفار وليس فيه صلاة معينة.




                                                الخدمات العلمية