الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2276 ص: وقد رأينا المصلي في يوم العيد قد كان أمر بحضور من لا يصلي.

                                                حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: أنا هشيم، قال: أنا منصور ، عن ابن سيرين ، عن أم عطية.

                                                وهشام ، عن حفصة، عن أم عطية قالت: "كان رسول الله - عليه السلام - يخرج الحيض وذوات الخدور يوم العيد، فأما الحيض فيعتزلن ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين".

                                                وقال هشيم: فقالت امرأة: "يا رسول الله إن لم يكن لإحدانا جلباب؟ قال: فلتعرها أختها جلبابها".


                                                [ ص: 158 ] فلما كن الحيض يخرجن لا لأجل الصلاة، ولكن لأن تصيبهن دعوة المسلمين احتمل أن يكون النبي - عليه السلام - أمر الناس بالخروج من غد العيد لأن يجتمعوا فيدعوا فتصيبهم دعوتهم لا للصلاة.

                                                التالي السابق


                                                ش: أشار بهذا الكلام إلى تأييد ما ذكره من قوله: "قد يجوز أن يكون أراد بذلك أن يجتمعوا فيدعو لا لأن يصلوا كما يصلى العيد"، بيان ذلك أن الخروج إلى المصلى في غد العيد لا يلزم منه أن يصلوا كما يصلون يوم العيد، ألا ترى أنه - عليه السلام - كان يخرج الحيض وذوات الخدور يوم العيد مع أنهن لم يكن يصلين! وإنما كان القصد من ذلك أن يشهدن الخير وتصيبهن دعوة المسلمين.

                                                فعلم من ذلك أنه لا يلزم من الخروج ولا من الأمر به فعل الصلاة ; فدل ذلك أن أمره - عليه السلام - بالخروج من غد العيد للمعنى الذي أمر به الحيض وذوات الخدور لا لفعل الصلاة، والله أعلم.

                                                ثم إسناد الحديث المذكور صحيح ورجاله رجال "الصحيح" ما خلا صالحا .

                                                وحفصة هي ابنة سيرين أخت محمد بن سيرين روى لها الجماعة.

                                                وأم عطية اسمها نسيبة بنت كعب -ويقال: بنت الحارث- الأنصارية الصحابية.

                                                وأخرجه الجماعة، فقال البخاري: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا أيوب ، عن حفصة بنت سيرين قالت: "كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف فأتيتها فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي - عليه السلام - ثنتي عشرة غزوة فكانت أختها معه في ست غزوات فقالت: فكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى، فقالت: يا رسول الله، على إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ فقال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين. قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها [ ص: 159 ] فسألتها: أسمعت في كذا وكذا؟ قالت: نعم، بأبي -وقل ما ذكرت النبي - عليه السلام - إلا قالت: بأبي- قال: ليخرج العواتق ذوات الخدور. أو قال: العواتق وذوات الخدور -شك أيوب- والحيض، وتعتزل الحيض المصلى وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين. قالت: فقلت لها: الحيض؟ قالت: نعم، أليس الحائض تشهد عرفات وتشهد كذا وكذا.

                                                وأخرجه مسلم: ثنا عمرو الناقد، قال: نا عيسى بن يونس، قال: ثنا هشام ، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق، والحيض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها".

                                                وقال أبو داود: ثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد ، عن أيوب ويونس وحبيب ويحيى بن عتيق وهشام في آخرين، عن محمد، أن أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - أن نخرج ذوات الخدور يوم العيد، قيل: فالحيض؟ قال: ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. قال: فقالت امرأة: يا رسول الله، إن لم يكن لإحداهن ثوب كيف تصنع؟ قال: تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها".

                                                وقال الترمذي: نا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: أنا منصور -وهو ابن زاذان- عن ابن سيرين ، عن أم عطية: "أن رسول الله - عليه السلام - كان يخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور والحيض في العيدين، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين، قالت إحداهن: يا رسول الله، إن لم يكن لها جلباب؟ قال: فلتعرها أختها من جلابيبها".

                                                [ ص: 160 ] وقال: نا أحمد بن منيع، قال: ثنا هشيم ، عن هشام بن حسان ، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية بنحوه.

                                                وقال النسائي: أنا عمرو بن زرارة، قال: أبنا إسماعيل ، عن أيوب ، عن حفصة قالت: "كانت أم عطية لا تذكر رسول الله - عليه السلام - إلا قالت: يا أباه فقلت: أسمعت رسول الله - عليه السلام - يذكر كذا وكذا؟ فقالت: نعم بأباه قال: قالت: لتخرج العواتق وذوات الخدود والحيض ويشهدن العيد ودعوة المسلمين ولتعتزل الحيض المصلى".

                                                وقال ابن ماجه: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة ، عن هشام بن حسان ، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: "أمرنا رسول الله - عليه السلام - أن نخرجهن في يوم الفطر والنحر، قال: قالت أم عطية: فقلنا: أرأيت إحداهن لا يكون لها جلباب؟ قال: فتلبسها أختها من جلبابها".

                                                قوله: "الحيض" بضم الحاء وتشديد الياء جمع حائض.

                                                قوله: "وذوات الخدور" الخدور جمع خدر، قال ابن سيده: هو ستر يمد للجارية في ناحية البيت، ثم صار كل ما واراك من بيت ونحوه خدرا، والجمع خدور وأخدار، وأخادير جمع الجمع، والخدر خشبات تنصب فوق فقر البعير مستورة بثوب، وهودج مخدور ومخدر ذو خدر، وقد أخدر الجارية وخدرها وتخدرت هي واختدرت.

                                                وفي "المخصص": الخدر: ثوب يمد في عرض الخباء فتكون فيه الجارية.

                                                وفي "المغيث" عن الأصمعي: الخدر: ناحية البيت تقطع للستر فتكون فيه الجارية البكر.

                                                [ ص: 161 ] وقال غيره: هو ستر يمد للجارية في ناحية البيت والهودج. وقال ابن قرقول: الخدر سرير عليه ستر، وقيل: الخدر البيت.

                                                قوله: "جلباب" الجلباب بالكسر جلد واسع كالملحفة تغطي به المرأة رأسها وصدرها وتجلببت المرأة وجلببها غيرها، ولم يدغم لأنه ملحق.

                                                وفي "المحكم": الجلباب القميص، وقيل: ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة، وقيل: ما تغطى به الثياب من فوق كالملحفة، وقيل: هو الخمار.

                                                وفي "الصحاح": الجلباب الملحفة، والمصدر الجلببة ولم تدغم لأنها ملحقة بدحرجة.

                                                وفي "الغريبين": الجلباب: الإزار، وقيل: هو الملاءة التي يشتمل بها.

                                                وقال عياض: هو أقصر من الخمار وأعرض وهي المقنعة، وقيل: دون الرداء تغطي به المرأة ظهرها وصدرها.

                                                ويستفاد منه أحكام: استدلت به طائفة على جواز خروج النساء للعيدين.

                                                قال القاضي: واختلف السلف في خروجهن للعيدين، فرأى ذلك جماعة حقا عليهن، منهم: أبو بكر وعلي وابن عمر - رضي الله عنهم -، ومنهم من منعهن ذلك منهم: عروة والقاسم ويحيى الأنصاري ومالك وأبو يوسف، وأجازه أبو حنيفة مرة ومنعه مرة.

                                                وقال الترمذي: وروي عن ابن المبارك: أكره اليوم خروجهن في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فلتخرج في أطمارها بغير زينة، فإن أبت ذلك فللزوج أن يمنعها. ويروى عن الثوري أنه كره اليوم خروجهن.

                                                قلت: وهذا كان في ذلك الزمان لأمنهن عن المفسدة بخلاف اليوم، ولهذا صح عن عائشة - رضي الله عنها -: "لو رأى رسول الله عليه السلام - ما أحدث النساء لمنعهن عن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل"، فإذا كان الأمر قد تغير في زمن عائشة حتى قالت هذا القول فماذا يكون اليوم الذي ظهر فيه الفساد في الصغير والكبير [ ص: 162 ] والبر والبحر، وعندي الفتوى على المنع، وأن خروجهن حرام ولا سيما في الديار المصرية.

                                                وفيه: منع الحيض من المصلى منع تنزيه لا تحريم، وعن أبي الفرج الدارمي الشافعي عن بعض الأصحاب: تحريم المكث على الحائض في المصلى كالمسجد.

                                                وقال النووي: والصواب الأول.

                                                واستدل به بعضهم على وجوب صلاة العيدين.

                                                وقال القرطبي: لا يستدل به على الأمر بوجوب صلاة العيدين ; لأن هذا إنما توجه لمن ليس بمكلف للصلاة باتفاق، وإنما المقصود التدرب على الصلاة والمشاركة في الخير وإظهار جمال الإسلام.

                                                وفيه جواز استعارة الثياب للخروج إلى الطاعات، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية