الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2329 ص: فقالوا: إنما النهي على التطوع خاصة لا على قضاء الفرائض، ألا ترون أن النبي- عليه السلام - قد نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، فلم يكن ذلك عندنا وعندكم بمانع أن تقضى صلاة فائتة في هذين الوقتين، فكذلك ما رويتم عنه من النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لا يكون مانعا عندنا ; لأن تقضى حينئذ صلاة فائتة، إنما هو مانع من صلاة التطوع خاصة.

                                                [ ص: 225 ] وكان من الحجة للآخرين عليهم: أنه قد روي عن النبي- عليه السلام - ما يدل على أن الصلوات المفروضات الفائتات قد دخلت فيما نهى عنه رسول الله - عليه السلام - من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها.

                                                وذلك أن علي بن شيبة حدثنا، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا هشام ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: "سرينا مع رسول الله - عليه السلام - في غزوة -أو قال: في سرية- فلما كان آخر السحر عرسنا، فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس، فجعل الرجل منا يثب فزعا دهشا، واستيقظ رسول الله - عليه السلام -، فأمرنا فارتحلنا من مسيرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا فقضى القوم حوائجهم، وأمر بلالا - رضي الله عنه - فأذن، فصلينا ركعتين، فأقام فصلى الغداة، فقلنا: يا نبي الله، ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال النبي - عليه السلام -: أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم؟! ".

                                                حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، قال: أنا يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان في سفر فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فأمر مؤذنا فأذن، ثم انتظر حتى استعلت الشمس، ثم أمر فأقام، فصلى الصبح".

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو داود ، قال: ثنا عباد بن ميسرة المنقري، قال: سمعت أبا رجاء العطاردي، قال: ثنا عمران بن حصين قال: "أسرى بنا رسول الله - عليه السلام - وعرسنا معه، فلم نستيقظ إلا بحر الشمس، فلما استيقظ رسول الله - عليه السلام - قالوا: يا رسول الله، ذهبت صلاتنا. فقال النبي - عليه السلام -: لم تذهب صلاتكم، ارتحلوا من هذا المكان، فارتحلنا قريبا، ثم نزل فصلى".

                                                حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عوف ، عن أبي رجاء ، عن عمران ، عن النبي - عليه السلام - نحوه.

                                                [ ص: 226 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 226 ] ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى، تقريره أن يقال: إن ما ورد من النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها إنما هو عن التطوع خاصة، وليس ذلك بنهي عن قضاء الفرائض، والدليل على ذلك: ما ورد من النهي عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، فإن هذا النهي لا يمنع عندنا وعندكم عن قضاء الصلوات الفائتة في هذين الوقتين، وإنما يمنع عن التطوع فيهما خاصة، فإذا كان كذلك ; لا تفسد صلاة الصبح بطلوع الشمس في أثنائها، حتى إذا طلعت بعد أداء ركعة يضم إليها ركعة أخرى ويجزئ ذلك عنه.

                                                وتقرير الجواب: ما أشار إليه بقوله: "وكان من الحجة للآخرين عليهم" أي على أهل المقالة الأولى أنه قد روي عن النبي - عليه السلام - على أن الصلوات الفائتة قد دخلت في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وذلك في حديث عمران بن الحصين - رضي الله عنه - ; لأن فيه أنه - عليه السلام - أخر صلاة الصبح حين فاتت عنهم إلى أن ارتفعت الشمس ولم يصلها قبل الارتفاع، فدل ذلك أن نهيه - عليه السلام - عن الصلاة عند طلوع الشمس عام، فشمل الفرائض والنوافل، وتخصيص ذلك بالتطوع ترجيح بلا مرجح، ودل ذلك أيضا على أن الوقت الذي استيقظ فيه ليس بوقت للصلاة التي نام عنها مع قوله - عليه السلام -: "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها".

                                                ثم إنه أخرج حديث عمران - رضي الله عنه - من أربع طرق صحاح:

                                                الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت ، عن روح بن عبادة بن العلاء البصري ، عن هشام بن حسان الأزدي البصري ، عن الحسن البصري .

                                                وكلهم رجال الجماعة ما خلا شيخ الطحاوي .

                                                فإن قيل: كيف تقول: طرق صحاح. وقد ذكر علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما أن الحسن البصري لم يسمع من عمران بن حصين .

                                                [ ص: 227 ] قلت: الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه"، وقال: حديث صحيح.

                                                وأخرجه أيضا ابن حبان في "صحيحه".

                                                وقد قدمنا من صحة سماع الحسن عن عمران بن حصين ، على أن الطحاوي ما اكتفى في تخريجه عن الحسن عن عمران حتى أخرجه من طريقين عن أبي رجاء العطاردي عن عمران ; على ما يجيء عن قريب إن شاء الله.

                                                وبهذا الطريق أخرجه أحمد في "مسنده": ثنا يزيد، أنا هشام .

                                                وثنا روح، نا هشام ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين قال: "سرينا مع رسول الله - عليه السلام -، فلما كان من آخر الليل عرسنا، فلم نستيقظ حتى أيقظتنا الشمس، فجعل الرجل يقوم منا دهشا إلى طهوره، قال: فأمرهم النبي - عليه السلام - أن يسكنوا، ثم ارتحلنا، فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ، ثم أمر بلالا فأذن، ثم صلى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام فصلينا، فقالوا: يا رسول الله، ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: أينهاكم ربكم تبارك وتعالى عن الربا ويقبله منكم؟! ".

                                                وأخرجه أبو داود مختصرا: من حديث يونس ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين .

                                                الطريق الثالث: عن علي بن معبد بن نوح ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل والحسن بن إسحاق التستري ، أنا وهب بن بقية، ثنا خالد ، عن يونس ، عن الحسن ، عن [ ص: 228 ] عمران بن حصين : "أن رسول الله - عليه السلام - كان في مسير فناموا عن صلاة الصبح، فاستيقظوا بحر الشمس، فارتفعوا قليلا حتى استقلت الشمس ثم أمر مؤذنا فأذن، فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم أقام، فصلى الفجر".

                                                قوله: "استقلت" أي ارتفعت واشتدت.

                                                الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن عباد بن ميسرة المنقري ، عن أبي رجاء العطاردي واسمه عمران بن ملحان .

                                                وأخرجه البخاري ومسلم مطولا من رواية أبي رجاء العطاردي ، عن عمران - رضي الله عنه -.

                                                قوله: "ارتحلوا من هذا المكان" وفي رواية: "تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة" وفي رواية مسلم : "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان".

                                                الرابع: عن علي بن معبد ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، عن عمران بن حصين .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: نا النضر بن شميل ، قال: ثنا عوف بن أبي جميلة ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن الحصين قال: "كنا مع رسول الله - عليه السلام - في سفر، فسرنا ليلة حتى إذا كان من آخر الليل قبيل الصبح وقعنا تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس. . . " الحديث بطوله.

                                                قوله: "سرينا" من سرى يسري سرى وهو السير بالليل، وكذلك أسرى يسري إسراء.

                                                [ ص: 229 ] قوله: "أو سرية" وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو، وجمعها: السرايا ; سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية وليس بالوجه ; لأن "لام" السر "راء" وهذا "ياء".

                                                قوله: "عرسنا" من التعريس وهو نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة، هكذا قال الخليل والجمهور.

                                                وقال أبو زيد : وهو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار، وفي الحديث: "يعرسون في نحو الظهيرة".

                                                قوله: "يثب" من الوثبة، أصله: يوثب.

                                                قوله: "فزعا دهشا" حالان مترادفان أو متداخلان من الضمير الذي في "يثب"، وفزعا -بفتح الفاء وكسر الزاي- بمعنى قائما من نومه على خوف، وهو من فزع يفزع من باب علم يعلم، يقال: فزع من نومه وأفزعته أنا، وكأنه من الفزع وهو الخوف ; لأن الذي ينبه لا يخلو من فزع ما.

                                                وقوله: "دهشا" بفتح الدال وكسر الهاء معناه متحيرا، من الدهشة.

                                                قوله: "أينهاكم الله" الهمزة فيه للاستفهام، والمعنى: أن الله تعالى أمركم بصلاة واحدة، فإذا فاتت عنكم بنوم أو نسيان أو غير ذلك فائتوا ببدلها ومثلها ولا تصلوها مرتين، فإن ذلك يكون زيادة، والزيادة على الجنس ربا، فالله تعالى قد نهاكم عن الربا ثم هو كيف يقبله منكم، وهذا يدل على أن الفائتة تقضى مرة واحدة ليس إلا ; خلافا لمن ذهب أنه يقضيها مرة ثم يصليها من الغد في الوقت الذي فاتت فيه، على ما يجيء بيانه في باب "الرجل ينام عن الصلاة أو ينسى كيف يقضيها" إن شاء الله تعالى.

                                                [ ص: 230 ] ويستنبط منه أحكام:

                                                ففيه دليل على أن الفائتة يؤذن لها، وأنها يقام لها، وعلى أن ركعتي الفجر تقضيان بعد طلوع الشمس إذا فاتتا مع الفرض، وكذا عند محمد إذا فاتتا بدونه، وأن الجماعة مستحبة فيها.

                                                وأن قضاء الفائتة بعذر ليس على الفور -على الصحيح- ولكن يستحب قضاؤها على الفور، وقيل: إنه على الفور. حكاه البغوي وجها عن الشافعي .

                                                وأما الفائتة بلا عذر فالأصح قضاؤها على الفور، وقيل: له التأخير كما في الأول.

                                                وفيه دليل أيضا على أن قضاء الفائتة يمنع عند طلوع الشمس كما ذكرناه، ثم اختلف أصحابنا في قدر الوقت الذي تباح فيه الصلاة بعد الطلوع.

                                                قال في الأصل: حتى ترتفع قدر رمح أو رمحين.

                                                وقال أبو بكر محمد بن الفضل: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تباح.

                                                وقال الفقيه أبو حفص السفكردري: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية، فما دامت الشمس تقع في حيطانه فهي في الطلوع، فلا تحل الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة.

                                                فإن قيل: قد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "تنام عيناي ولا ينام قلبي" فكيف ذهب عنه الوقت ولم يشعر به؟

                                                قلنا: إن ذلك خاص في أمر الحدث ; لأن النائم قد يكون منه الحدث وهو لا يشعر به، وليس كذلك رسول الله- عليه السلام - فإن قلبه لا ينام حتى يشعر بالحدث إذا كان منه، ويقال: إن ذلك من أجل أنه يوحى إليه في منامه فلا ينبغي لقلبه أن ينام، فأما معرفة الوقت وإثبات رؤية الشمس طالعة فإن ذلك إنما يكون دركه ببصر العين دون القلب، فليس فيه مخالفة للحديث الآخر، فافهم.




                                                الخدمات العلمية