الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2339 ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب الزهري ، قال: ثنا ابن أبي حازم ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن أبي هريرة : "أن رسول الله - عليه السلام - عرس ذات ليلة بطريق مكة، فلم يستيقظ هو ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فاستيقظ رسول الله - عليه السلام - فقال: هذا منزل به شيطان. فاقتاد رسول الله - عليه السلام - واقتاد أصحابه حتى ارتفع الضحى، فأناخ رسول الله - عليه السلام - وأناخ أصحابه، فأمهم، فصلى الصبح".

                                                فلما رأينا النبي - عليه السلام - أخر صلاة الصبح لما طلعت الشمس -وهي فريضة- فلم يصلها حينئذ حتى استوت الشمس، وقال في غير هذا الحديث: "فمن نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها".

                                                دل ذلك أن نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس قد دخل فيه الفرائض والنوافل، وأن الوقت الذي استيقظ فيه ليس بوقت للصلاة التي نام عنها.

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة الزهري المدني الفقيه قاضي مدينة رسول الله - عليه السلام -، شيخ الجماعة سوى النسائي ، وابن أبي حازم هو عبد العزيز، واسم أبي حازم سلمة بن دينار المدني روى له الجماعة، والعلاء بن عبد الرحمن المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وأبوه عبد الرحمن بن يعقوب المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

                                                وأخرجه مسلم بغير هذا الإسناد: حدثني محمد بن حاتم ويعقوب [ ص: 237 ] الدورقي، كلاهما عن يحيى، قال ابن حاتم: نا يحيى بن سعيد ، قال: نا يزيد بن كيسان، قال: نا أبو حازم ، عن أبي هريرة قال: "عرسنا مع نبي الله - عليه السلام -، فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال - عليه السلام -: ليأخذ كل رجل برأس راحلته فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان. قال: ففعلنا، ثم دعا بالماء، فتوضأ، ثم سجد سجدتين -وقال يعقوب: ثم صلى سجدتين- وأقيمت الصلاة فصلى الغداة".

                                                وأخرج مسلم أيضا بأطول منه: عن حرملة بن يحيى ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : "أن رسول الله - عليه السلام - حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرس. . . " الحديث.

                                                وأخرجه أبو داود أيضا بهذا الإسناد والمتن.

                                                وقد قال بعضهم: "حين قفل من غزوة حنين" موضع "خيبر"، وهذه الرواية مناسبة لرواية الطحاوي ; لأن في روايته: "عرس ذات ليلة بطريق مكة" فالظاهر أن هذا إنما كان حين قفل - عليه السلام - من غزوة حنين، وكانت غزوة حنين بعد الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وغزوة خيبر كانت في السنة السادسة من الهجرة.

                                                قوله: "عرس" من التعريس وقد فسرناه.

                                                قوله: "هذا منزل به شيطان" وفي رواية مسلم : "هذا منزل حضرنا فيه شيطان"، وإنما قال ذلك لكون صلاة الفجر قد فاتت عنهم، فكأن الشيطان هو الذي تسبب في ذلك ; لأنه لا يسعى إلا في الشر.

                                                قوله: "فاقتاد رسول الله - عليه السلام -" أي اقتاد راحلته واقتاد أصحابه أيضا رواحلهم إلى أن ارتفع الضحى.

                                                [ ص: 238 ] ويستفاد منه أحكام:

                                                استدل به أصحابنا على وجوب الترتيب بين الصلوات الفائتة ; لأن النبي - عليه السلام - جعل وقت التذكير وقتا للفائتة فمن ضرورته أن لا يكون وقتا للوقتية، واستدل به بعضهم على أن تأخير قضاء الفائتة بعذر لا يجوز، والصحيح أنه يجوز، وأن الأمر محمول على الاستحباب وقد مر مرة.

                                                واستدل بقوله - عليه السلام -: "من نسي صلاة أو نام عنها. . . " الحديث بعضهم على قضاء السنن الراتبة.

                                                قلت: استدلال غير صحيح ; لأن قوله: "من نسي صلاة" صلاة الفرض بدلالة القرينة.

                                                وفيه دليل على أن الناسي يقضي، وقد شذ بعض الناس فقال: من زاد على خمس صلوات لم يلزم قضاؤها.

                                                وأما من ترك الصلاة متعمدا حتى خرجت أوقاتها فالمعروف من مذاهب الفقهاء أنه يقضي، وشذ بعض الناس فقال: لا يقضي.

                                                قال القاضي عياض: ويحتج له بدليل الخطاب في قوله: "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها"، ودليله أن العامد بخلاف ذلك، فإن لم نقل بدليل الخطاب سقط احتجاجه، وإن قلنا بإثباته قلنا: ليس هذا ها هنا في الحديث من دليل الخطاب بل هو من التنبيه بالأدنى على الأعلى لأنه إذا وجب القضاء على الناسي مع سقوط الإثم فأحرى أن يجب على العامد.

                                                وقال القاضي: سمعت بعض شيوخنا يحكي أنه بلغه عن مالك قولة شاذة في المفرط كقول داود، ولا تصح عنه ولا عن أحد من الأئمة ولا من يعتزى إلى علم سوى داود وأبي عبد الرحمن الشافعي ، وقد اختلف الأصوليون في الأمر بالشيء المؤقت هل يتناول قضاءه إذا خرج وقته أو يحتاج إلى أمر ثان؟.

                                                [ ص: 239 ] وقال بعض المشايخ: إن قضاء العامد مستفاد من قوله: "فليصلها إذا ذكرها" لأنه تغفل عنها بجهله وعمده كالناسي، ومتى ذكر تركه لها لزمه قضاؤها، والله أعلم.

                                                قوله: "فلما رأينا النبي - عليه السلام - أخر صلاة الصبح لما طلعت الشمس" أي حين طلعت الشمس ليلة التعريس، والحال أنها فريضة "فلم يصلها حينئذ" أي حين استيقظوا في حالة طلوع الشمس "حتى استوت الشمس" أي ارتفعت وعلت، "وقال في غير هذا الحديث"، أي والحال أنه - عليه السلام - قد قال في غير حديث ليلة التعريس: "من نسي صلاة. . . " الحديث "دل ذلك" أي فعله - عليه السلام - هذا وهو جواب لما رأينا.

                                                فإن قيل: كيف التوفيق بين الحديثين؟ فالحديث الأول يدل على أن وقت طلوع الشمس لا يصلح للفائتة، وهذا الحديث يدل على أنه إذا ذكر الفائتة في وقت الطلوع فإنه يصليها في ذلك الوقت، وكذا إذا ذكرها وقت الغروب أو وقت الاستواء؟

                                                قلت: تواترت الآثار بالنهي عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة، وهي عامة في جنس الصلوات، وبها يثبت تخصيص هذه الأوقات من هذا الحديث، أعني قوله - عليه السلام -: "من نسي صلاة. . . " إلى آخره، وقد أخرج هذا الحديث ها هنا معلقا، وعقد له بابا فيما بعد على ما يأتي إن شاء الله تعالى.




                                                الخدمات العلمية