الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2429 ص: فإن قال قائل: فقد أتم ذلك الرجل الذي قدمه سلمان والمسور وهما صاحبان، فقد ضاد ذلك ما رواه سلمان ومن تابعه على ترك الإتمام في السفر.

                                                قيل له: في هذا دليل على ما ذكرت ; لأنه قد يجوز أن يكون المسور وذلك الرجل أتما لأنهما لم يكونا يريان في ذلك السفر قصرا ; لأن مذهبهما لا تقصر الصلاة إلا في حج، أو عمرة، أو غزو، فإنه قد ذهب إلى ذلك غيرهما، فلما احتمل ما روي عنهما ما ذكرنا، وقد ثبت التقصير عن أكثر أصحاب رسول الله - عليه السلام - لم يجعل ذلك مضادا لما قد روي عنهم ; إذ كان قد يجوز أن يكون على خلاف ذلك، وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قد صلى بمنى أربعا، فأنكر ذلك عليه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ومن أنكره معه من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، وإن كان عثمان - رضي الله عنه - إنما فعله لمعنى رأى به إتمام الصلاة مما سنصفه في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى، فلما كان الذي ثبت لنا عن رسول الله - عليه السلام -، وعن أصحابه هو تقصير الصلاة في السفر لا إتمامها ; لم يجز لنا أن نخالف ذلك إلى غيره.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: إن الرجل الذي قدمه سلمان في الصلاة قد أتم صلاته وهو صحابي، وكذلك المسور بن مخرمة في حديث الزهري المذكور عن قريب قد أتم صلاته، وهو أيضا صحابي، فقد وقع بين فعلهما وبين ما روي عن سلمان ومن تابعه من الصحابة على ترك الإتمام في السفر تضاد وتخالف ; فحينئذ لا يتم الاستدلال بقول من يرى القصر.

                                                [ ص: 365 ] وتقوير الجواب أن يقال: يحتمل أن يكون مذهب هذين الصحابيين أن لا تقصر الصلاة في حج أو عمرة أو غزوة، ولم يكونا يريان القصر في تلك السفرة التي كانا فيها ; لأنها لم تكن سفرة الحج، ولا سفرة العمرة، ولا سفرة الغزوة، وقد ذهب إلى هذا المذهب أيضا غيرهما من الصحابة وغيرهم، فعلى هذا يكونان ممن يرى القصر في السفر ولكن في سفر مخصوص وهو أن يكون سفرا من هذه الثلاث، فإذا كان الأمر كذلك لم يبق فيه تضاد ولا تخالف.

                                                قوله: "فإنه قد ذهب" أي: فإن الشأن: قد ذهب إلى أن القصر مخصوص بسفر من هذه السفرات الثلاث غيرهما أي غير الرجل الذي قدمه سلمان والمسور بن مخرمة .

                                                وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا ابن فضيل وأبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله بن مسعود : "لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد".

                                                وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "إنما يقصر الصلاة من كان حاجا أو بحضرة عدو".

                                                وروي ذلك أيضا عن أبي قلابة وعن إبراهيم التيمي .

                                                وفي "الاستذكار" عن عطاء : "ما أرى أن تقصر الصلاة إلا في سبيل من سبل الله تعالى"

                                                وكان طاوس يسأله الرجل فيقول: "أسافر لبعض حاجتي أفأقصر الصلاة؟ فيسكت، ويقول: حجاجا أو عمارا صلينا ركعتين".

                                                وقال أبو عمر : ذهب داود في هذا إلى قول ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو نقض لأصله في ترك ظاهر الكتاب إذ لم يخص ضربا من ضرب، واختلف أهل الظاهر [ ص: 366 ] في هذه المسألة، فطائفة تقول بقول داود، وقال أكثرهم بقصر كل مسافر العاصي والمطيع كمذهب أبي حنيفة ، وسيجيء مزيد الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

                                                قوله: "وهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. . . . . . " إلى آخره، ذكر هذا تأكيدا لما ذكره من أمر القصر، بيانه: أن القصر في السفر لو لم يكن عزيمة لما أنكر عبد الله بن مسعود على أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين صلى بمنى أربعا، ومن عامة إنكاره عليه استرجع فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ; وذلك لكراهيته خلاف ما عهد من النبي - عليه السلام - وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وخلاف ما عهد من عثمان أيضا قبل ذلك، ولكن إنكار ابن مسعود عليه ليس على أنه رآه خالف الفرض وإنما خالف النفل ; إذ لو اعتقد أن فرضه ركعتان لم يستبح أن يصليهما خلفه.

                                                وقوله: "فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان" يدل على هذا ; لأن الأربع لو لم تكن مشروعة ولا مباحة في السفر لم يكن فيها حظ جملة ولا تبعيض، وإنما أشار إلى التخفيف والأخذ بالعزيمة واتباع سنة النبي - عليه السلام - بذلك.

                                                وقال: خشي ألا تجزئه الأربع. قال القاضي عياض: الداودي وفيه بعد، والله أعلم.

                                                قوله: "وإن كان عثمان إنما قبله لمعنى" واصل بما قبله، وسيذكر معنى هذا إن شاء الله تعالى.




                                                الخدمات العلمية