الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2483 ص: ولكل واحد منهم في مذهبه الذي ذهب إليه معنى سنبينه في هذا الباب ونذكر مع ذلك ما يجب له من طريق النظر وما يجب عليه أيضا من طريق النظر إن شاء الله تعالى.

                                                فأما عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فالذي ذكرنا عنه من ذلك هو إتمامه الصلاة بمنى، فلم يكن ذلك لأنه أنكر التقصير في السفر، كيف يتوهم ذلك عليه وقد قال الله -عز وجل- وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية.

                                                فأباح الله لهم القصر في هذه الآية إذا خافوا أن يفتنهم الذين كفروا، ثم أخبرهم رسول الله - عليه السلام - أن ذلك واجب لهم، وإن أمنوا في حديث يعلى بن منية الذي روينا عنه عن عمر - رضي الله عنه - في أول هذا الباب، وصلى رسول الله - عليه السلام - بمنى [ ص: 392 ] ركعتين وهم أكثر ما كانوا وآمنه وعثمان - رضي الله عنه - معه، فلم يكن إتمامه الصلاة بمنى لأنه أنكر التقصير في السفر ولكن لمعنى قد اختلف فيه.

                                                فحدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: أنا عبد الرزاق ، قال: أنا معمر ، عن الزهري قال: "إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأنه أزمع على المقام بعد الحج".

                                                فأخبر الزهري في هذا الحديث أن إتمام عثمان - رضي الله عنه - إنما كان لأنه نوى الإقامة، فصار إتمامه ذلك وهو مقيم قد خرج مما كان فيه من حكم السفر ودخل في حكم الإقامة، فليس في فعله ذلك دليل على مذهبه كيف كان في الصلاة في السفر هل هو الإتمام أو التقصير؟

                                                وقد قال الزهري أيضا غير ذلك.

                                                فحدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو عمر ، عن حماد بن سلمة ، قال: أنا أيوب ، عن الزهري قال: "إنما صلى عثمان - رضي الله عنه - بمنى أربعا لأن الناس كانوا أكثر في ذلك العام، فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع".

                                                فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب أن الصلاة أربع، فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة، فصار مقيما فرضه أربع فصلى أربعا وهو مقيم بالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري في الفصل الذي قبل هذا، ويحتمل أن يكون فعل هذا وهو مسافر لتلك العلة.

                                                والتأويل الأول أشبه عندنا، والله أعلم ; لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله - عليه السلام - أجهل منهم منها وبحكمها في زمن عثمان - رضي الله عنه -، وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهدا، فهم كانوا في زمن رسول الله - عليه السلام - إلى العلم بفرض الصلاة أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان - رضي الله عنه -، فلما كان رسول الله - عليه السلام - لم يتم الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها ويعلمهم كيف حكمها في [ ص: 393 ] الحضر، فقد عاد حكم معنى ما صح من تأويل حديث أيوب عن الزهري إلى معنى حديث معمر عن الزهري .

                                                وقد قال آخرون: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو عمر ، قال: ثنا حماد، قال: ثنا قتادة ، قال: قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل".

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عباس بن عبد الله : "أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كتب إلى عماله أن لا يصلين الركعتين جابي ولا نائي ولا تاجر، وإنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد".

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا روح وأبو عمر ، قالا: ثنا حماد بن سلمة ، أن أيوب السختياني أخبرهم، عن أبي قلابة الجرمي ، عن عمه أبي المهلب قال: "كتب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه بلغني أن قوما يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجشر ثم يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو. فقالوا: فكان مذهب عثمان - رضي الله عنه - أن لا يقصر الصلاة إلا من كان يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصا، فأما من كان في مصر مستغن به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة.

                                                قالوا: ولهذا أتم هو الصلاة بمنى ; لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صاروا مصرا يستغنى من صلى به عن حمل الزاد والمزاد.

                                                وهذا المذهب عندنا فاسد ; لأن منى لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله - عليه السلام - فقد كان رسول الله - عليه السلام - يصلي بها ركعتين، ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك، ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنه - كذلك، فإذا كانت مكة مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة، فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك.

                                                [ ص: 394 ] فقد اتفقت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان - رضي الله عنه - أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذي حكاه معمر عن الزهري ، فإنه يحتمل أن يكون من أجله أتمها، وفي ذلك الحديث أن إتمامه كان لنية الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي لكل واحد من الصحابة المذكورين الذين أتموا صلاتهم في السفر معنى فيما ذهب إليه من الإتمام في السفر.

                                                وأراد بهذا الكلام الجواب عما روي عن هؤلاء من الإتمام في السفر ; فلذلك شرع فيه بكلمة "أما" التفصيلية بقوله: "فأما عثمان - رضي الله عنه -. . . " إلى آخره.

                                                تقرير ذلك أن عثمان - رضي الله عنه - لم يتم صلاته بناء على أنه كان ينكر التقصير في السفر، وكيف يتوهم ذلك في حقه وقد شاهد التنزيل يخبر أن الله تعالى قد أباح لهم القصر عند خوفهم من فتنة الكفار، وأن رسول الله - عليه السلام - أخبرهم أن القصر واجب لهم وإن كانوا في حالة الأمن بقوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وذلك في حديث يعلى بن منية الذي ذكر في أول الباب، وأيضا لما صلى رسول الله - عليه السلام - بمنى ركعتين والناس أكثر ما كانوا وآمنه أي آمن ما كانوا، كان عثمان معه - عليه السلام -، فكيف يتوهم حينئذ أنه كان ينكر التقصير؟! فإذا بطل هذا ; تعين تأويل إتمامه وحمله على معنى من المعاني.

                                                وقد اختلف العلماء فيه، فقال الزهري وجماعة: إنما أتم لأنه عزم على الإقامة بعد الحج.

                                                أخرج ذلك بإسناد رواتها ثقات ولكنه منقطع عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن حسين بن مهدي بن مالك البصري شيخ الترمذي وابن ماجه ، عن عبد الرزاق صاحب "المسند" و "المصنف"، عن معمر بن راشد الأزدي، عم محمد بن مسلم الزهري .

                                                [ ص: 395 ] وأخرجه أبو داود : ثنا ابن العلاء، قال: ثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري : "أن عثمان - رضي الله عنه - إنما صلى بمنى أربعا ; لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج".

                                                فقد أخبر الزهري فيه أن إتمامه - رضي الله عنه - إنما كان لأنه أزمع على المقام، يقال: أزمع على أمر كذا إذا ثبت عليه، وقال الفراء : يقال: أزمعته وأزمعت عليه بمعنى مثل أجمعته وأجمعت عليه.

                                                وقال ابن فارس : هذا له وجهان:

                                                أحدهما: أن يكون مقلوبا من عزم.

                                                والآخر: أن تكون الزاي بدلا من الجيم كأنه من إجماع الرأي.

                                                وقال الكسائي : أزمعت الأمر ولا يقال أزمعت عليه. وما ورد في الأثر يرد عليه.

                                                فإذا كان كذلك كان إتمام عثمان - رضي الله عنه - والحال أنه مقيم قد خرج بذلك عن حكم السفر ودخل في حكم الإقامة، ولكن ليس فيه دليل على مذهبه كيف كان في صلاته في السفر؟ هل هو يرى الإتمام أو يرى القصر؟

                                                وقد روي عن الزهري معنى آخر في إتمام عثمان غير المعنى الذي ذكره.

                                                أخرجه أيضا برواة ثقات ولكنه منقطع أيضا عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ البخاري وأبي داود ، عن حماد بن سلمة ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن مسلم الزهري .

                                                وأخرجه أبو داود أيضا: عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد ، عن أيوب ، عن الزهري : "أن عثمان - رضي الله عنه - أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب ; لأنهم كثروا عامئذ، فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع".

                                                [ ص: 396 ] فهذا المعنى خلاف المعنى المذكور أولا، ولكن له احتمالان:

                                                أحدهما: أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة، فصار حينئذ مقيما، فصار فرضه أربعا، فصلى أربعا.

                                                والآخر: يحتمل أن يكون فعل ما فعل والحال أنه مسافر لتلك العلة المذكورة.

                                                ثم قال الطحاوي -رحمه الله -: والتأويل الأول أشبه عندنا، والله أعلم. [3 \ ق 208 - أ]

                                                ثم بين وجه ذلك بقوله: "لأن الأعراب. . . " إلى آخره.

                                                فإن قيل: بل التأويل الثاني أشبه وأقرب إلى الصواب.

                                                والدليل عليه ما قاله البيهقي في "المعرفة": قد روينا بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه: "أن عثمان أتم بمنى، ثم خطب الناس فقال: أيها الناس، إن السنة سنة رسول الله - عليه السلام - وسنة صاحبيه، ولكن حدث العام من الناس فخفت أن يستنوا".

                                                ثم قال البيهقي : وهذا يؤيد رواية أيوب عن الزهري : "أن عثمان أتم بمنى لأجل الأعراب لأنهم كثروا عامئذ" ويضعف ما رواه معمر عنه: "أن عثمان - رضي الله عنه - إنما صلى بمنى أربعا لأنه أجمع الإقامة بعد الحج".

                                                وقال أبو عمر : قال ابن جريج : "إن أعرابيا نادى عثمان في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام الأول صليتها ركعتين، فخشي عثمان - رضي الله عنه - أن يظن جهال الناس أن الصلاة ركعتان".

                                                قلت: الذي يظهر لي أن كلا من التأويلين بعيد.

                                                [ ص: 397 ] أما الأول: فلأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاثة أيام، ويعارضه أيضا ما قاله أبو عمر بن عبد البر: المعروف عن عثمان أنه ما كان يطوف للإفاضة والوداع إلا ورواحله قد رحلت، فهذه الحالة ليست حالة من ينو الإقامة.

                                                وأما الثاني: فلما ذكرنا من إتمامه لو كان للعلة التي ذكرت لكان النبي - عليه السلام - أولى به ; لأن جهالة الأعراب كانت أشد وأكثر في زمن النبي - عليه السلام -، وكانوا أحوج إلى ذلك في زمنه من زمن عثمان - رضي الله عنه - ; لأن أمر الصلاة اشتهر في زمنه أكثر مما كان في زمن النبي - عليه السلام - ومع هذا لم يتم النبي - عليه السلام -.

                                                وقال جماعة آخرون في تأويل إتمام عثمان ما أشار إليه الطحاوي بقوله: "وقد قال آخرون. . . " إلى آخره، وأراد بهم: محمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وقتادة ; فإنهم قالوا: المعنى في إتمام عثمان الصلاة بمنى: من أجل أنه كان يذهب إلى أنه لا يقصر الصلاة إلا من حل وارتحل، وأراد به المسافر الذي يحل في أرض -أي: ينزل- ثم يرتحل ويحمل معه الزاد والمزاد فإنه هو الذي يقصر الصلاة، وأما الذي يدخل مصرا من الأمصار ويستغني عن حمل الزاد والمزاد فإنه لا يقصر، وقد يقال: المراد من الحال المرتحل: الغازي الذي لا يقفل عن غزو إلا عقبه آخر.

                                                قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما قالوا من المعنى في إتمام عثمان الصلاة بما رواه قتادة وعباس بن عبد الله وأبو المهلب .

                                                أما ما رواه قتادة : فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة . . . إلى آخره.

                                                وهو منقطع.

                                                وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا أبو الأحوص ، عن عاصم ، عن ابن [ ص: 398 ] سيرين قال: "كانوا يقولون في السفر الذي تقصر فيه الصلاة: الذي يحمل فيه الزاد والمزاد".

                                                قلت: "الزاد" معروف وهو الذي يتزود به المسافر أي يتقوت.

                                                و "المزاد": بفتح الميم: جمع مزادة وهي الراوية، وقال أبو عبيد : لا يكون إلا من جلدين يقام بجلد ثالث بينهما ليتسع.

                                                قال الجوهري: وكذلك السطيحة والشعيب، والجمع: المزاد والمزايد.

                                                وقال ابن الأثير: المزادة الظرف الذي يحمل فيه الماء كالراوية والقربة والسطيحة، والجمع المزاود والميم زائدة.

                                                وأما ما رواه عباس بن عبد الله : فأخرجه أيضا عن أبي بكرة ، عن روح بن عبادة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عباس بن عبد الله الجشمي، هكذا وقع في رواية الطحاوي عباس -بالباء الموحدة- وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين وقال: يروي عن عثمان وأبي هريرة ، وروى عنه قتادة ، وفي "الكمال": روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه .

                                                وأخرجه ابن حزم في "المحلى"، وفي روايته: "عياش" بالياء آخر الحروف وبالشين المعجمة من طريق يحيى بن سعيد القطان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عياش بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: "أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كتب إلى عماله لا يصلي الركعتين جابيا ولا تانيا، إنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد".

                                                قال علي: التاني هو صاحب الضيعة.

                                                قال علي: هكذا في كتابي، والصواب عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة .

                                                قلت: الصواب ما قاله الطحاوي .

                                                [ ص: 399 ] وأخرجه عبد الرزاق أيضا في "مصنفه": عن معمر ، عن قتادة : "أن عثمان - رضي الله عنه - كتب إلى بعض عماله: أنه لا يصلي الركعتين المقيم ولا التاني ولا التاجر، إنما يصلي الركعتين من معه الزاد والمزاد".

                                                قلت: هذا منقطع وما رواه الطحاوي متصل.

                                                قوله: "جابي" فاعل من الجباية، وهو استخراج الأموال من مظانها.

                                                قوله: "ولا تاني" من تناء، ذكره الجوهري في باب المهموز، وقال: تنأت بالبلد تنوءا إذا أقمت به وقطنته، والتاني من ذلك، وهم تناء البلد.

                                                وأما ما رواه أبو المهلب: فأخرجه عن أبي بكرة أيضا، عن روح بن عبادة وابن عمر حفص بن عمر الضرير كلاهما، عن حماد بن سلمة ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ، عن أبي المهلب الجرمي عم أبي قلابة ، قال النسائي : أبو المهلب عمرو بن معاوية ، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية . وقال غيره: اسمه معاوية بن عمرو ، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو ، وقيل: النضر بن عمرو ، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

                                                وأخرجه ابن حزم في "المحلى": من طريق حماد بن سلمة ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة ، عن المهلب: "أن عثمان بن عفان كتب: إنه بلغني أن رجالا يخرجون إما لجباية وإما لتجارة وإما لجشر ثم لا يتمون الصلاة، فلا تفعلوا فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو".

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن ابن علية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال: حدثني رجل ممن قرأ كتاب عثمان - رضي الله عنه - أو قرئ عليه فقال: "أما بعد، فإنه بلغني أن رجالا منكم يخرجون إلى سوادهم إما في جشر وإما في جباية وإما [ ص: 400 ] في تجارة فيقصرون الصلاة -أو لا يتمون الصلاة- لا تفعلوا، فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو".

                                                وأخرجه عبد الرزاق أيضا في "مصنفه": عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال: أخبرني من قرأ كتاب عثمان أو قرئ عليه: "أن عثمان - رضي الله عنه - كتب إلى أهل البصرة: أما بعد، فإنه بلغني أن بعضكم يكون في جشره أو في تجارته أو يكون جابيا فيقصر الصلاة، إنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو".

                                                قوله: "وإما لجشر" قال ابن الأثير: الجشر قوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم، ولا يأوون إلى البيوت، فربما رأوه سفرا فقصروا الصلاة، فنهاهم عثمان عن ذلك ; لأن المقام في المراعي وإن طال فليس بسفر".

                                                وقال الجوهري: قال الأصمعي : يقال: أصبح بنو فلان جشرا إذا كانوا يبيتون مكانهم في الإبل لا يرجعون إلى بيوتهم، قال: وكذلك قال: جشر: يرعى في مكانه ولا يرجع إلى أهله، قال: يقال جشرنا دوابنا: أخرجناها إلى المرعى نجشرها جشرا بالإسكان ولا تروح، وخيل مجشرة بالحمى أي مرعية.

                                                قلت: قوله: "وإما لجشر" بفتح الجيم وسكون الشين المعجمة مصدر من جشر كما أشار إليه الجوهري وقول ابن الأثير: الجشر قوم -بفتحتين- وكذلك قول الأصمعي : أصبح بنو فلان جشرا. فافهم.

                                                قوله: "من كان شاخصا" أي مسافرا، وشخوص المسافر خروجه عن منزله.

                                                قوله: "فقالوا" أي: فقال هؤلاء الآخرون الذين قالوا: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل.

                                                قوله: "وهذا المذهب" أشار به إلى مذهب هؤلاء الآخرين، وفساده ظاهر.

                                                [ ص: 401 ] قوله: "فقد انتفت" أي: إذا كان الأمر كذلك فقد انتفت، من الانتفاء ومن النفي، والباقي ظاهر.

                                                وقد ذكر آخرون في إتمام عثمان - رضي الله عنه - صلاته وجوها أخر.

                                                منها: ما قاله بعضهم: إن عثمان - رضي الله عنه - إنما أتم بمنى لأنه تأهل بمكة شرفها الله تعالى، وروى عبد الله بن الحارث بن أبي ذباب ، عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا عثمان أربع ركعات فلما سلم أقبل على الناس فقال: إني تأهلت بمكة وقد سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: من تأهل ببلدة فهو من أهلها فليصل أربعا".

                                                وفي مسند محمد بن سنجر بسند ضعيف: "أن عثمان - رضي الله عنه - لما أنكروا عليه قال: أيها الناس إني لما قدمت تأهلت بها، إني سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إذا تأهل الرجل ببلد فليصل بهم صلاة المقيم".

                                                ورد هذا بأنه كان يسافر بزوجاته ويقصر، وأيضا المسافر إذا دخل مصرا وتزوج بها لا يصير مقيما بنفس التزوج بخلاف المرأة، نص عليه صاحب "الغنية" أيضا.

                                                ومنها: ما قاله بعضهم: كان أهله بمكة فلذلك أتمها.

                                                ورد هذا أيضا بما ذكرناه.

                                                ومنها: ما قاله ابن حزم: قيل: إنه تأول أنه إمام الناس فحيث حل هو منزله. ورد هذا أيضا بأن النبي - عليه السلام - كان أولى بذلك ولم يفعله.

                                                ومنها: ما ذكره القرطبي : أن الوجه في أمر عثمان أنه هو وعائشة - رضي الله عنهما - تأولا أن القصر رخصة غير واجب فأخذ بالأكمل الأتم، ولولا ذلك ما أقروا عثمان عليه.

                                                [ ص: 402 ] وفيه نظر ; لما في "صحيح مسلم " عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "صحبت رسول الله - عليه السلام - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبض، وصحبت أبا بكر - رضي الله عنه - فلم يزد على ركعتين حتى قبض، وصحبت عمر - رضي الله عنه - فلم يزد على ركعتين حتى قبض، وصحبت عثمان - رضي الله عنه - فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله".

                                                وفي "صحيح ابن خزيمة ": "سافرت مع النبي - عليه السلام - ومع أبي بكر ومع عمر وعثمان - رضي الله عنهم - فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها".

                                                فإن قيل: هذا مخالف لما رواه البخاري : عن ابن عمر : "صحبت عثمان - رضي الله عنه - فكان يصلي ركعتين صدرا من خلافته".

                                                قلت: وجه التوفيق بين الروايتين: أن ابن عمر أخبر عن عثمان في أسفاره كلها إلا بمنى فإن عثمان - رضي الله عنه - إنما أتم بمنى لا في أسفاره كلها على ما فسره عمران بن حصين - رضي الله عنه -، على ما رواه الترمذي : ثنا أحمد بن منيع ، قال: ثنا هشيم، قال: أنا علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي نضرة ، قال: سئل عمران بن حصين - رضي الله عنه - عن صلاة المسافر فقال: "حججت مع رسول الله - عليه السلام - فصلى ركعتين، وحججت مع أبي بكر - رضي الله عنه - فصلى ركعتين، ومع عمر - رضي الله عنه - فصلى ركعتين، ومع عثمان - رضي الله عنه - ست سنين من خلافته -أو ثماني سنين- فصلى ركعتين".

                                                قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

                                                ومنها: ما قاله أبو عمر بن عبد البر: قال قوم: أخذ عثمان - رضي الله عنه - بالمباح في ذلك ; إذ للمسافر أن يقصر ويتم كما له أن يصوم ويفطر.

                                                [ ص: 403 ] قلت: هذا عندي أقرب وأوجه وأشبه بالصواب، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية