الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2562 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون ، قال: أنا المسعودي ، عن زياد بن علاقة ، عن المغيرة بن شعبة قال: "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - فسها فنهض في الركعتين، فسبحنا به، فمضى، فلما أتم الصلاة وسلم سجد سجدتي السهو".

                                                حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد ... فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو داود ، قال: ثنا المسعودي ، عن زياد بن علاقة قال: "أمنا المغيرة بن شعبة . . . " فذكر نحوه.

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا بكر بن بكار، قال: ثنا علي بن مالك الرؤاسي من أنفسهم، قال: سمعت عامرا يحدث: "أن المغيرة سها في السجدتين الأولين، فسبح به، فاستتم قائما حتى صلى أربعا، ثم سجد سجدتي السهو وقال: هكذا فعل رسول الله - عليه السلام -".

                                                حدثنا مبشر، قال: ثنا أبو عامر ، قال: ثنا شعبة ، عن جابر بن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة . . . مثله.

                                                حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا قيس بن الربيع ، عن المغيرة بن شبيل ، عن قيس بن أبي حازم قال: "صلى بنا المغيرة بن شعبة ، فقام في الركعتين فسبح الناس خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما قضى صلاته سلم وسجد سجدتي السهو، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استتم أحدكم قائما فليصل وليسجد سجدتي السهو، وإن لم يستتم قائما فليجلس ولا سهو عليه".

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن المغيرة بن شبيل ، عن قيس بن أبي حازم قال: "صلى بنا المغيرة بن شعبة فقام من [ ص: 490 ] الركعتين قائما، فقلنا: سبحان الله، فأومأ وقال: سبحان الله، فمضى، فلما قضى صلاته وسلم سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: صلى بنا رسول الله - عليه السلام - فاستوى قائما من جلوسه فمضى في صلاته، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: إذا صلى أحدكم فقام من الجلوس فإن لم يستتم قائما فليجلس وليس عليه سجدتان، فإن استوى قائما فليمض في صلاته وليسجد سجدتين وهو جالس".

                                                فهذا المغيرة - رضي الله عنه - يحكي عن رسول الله - عليه السلام - أنه سجد للسهو لما نقصه من صلاته بعد السلام، وهذه الأحاديث قد تحتمل وجوها، فقد يجوز أن يكون ما ذكرنا من حديث ابن بحينة ومعاوية من سجود رسول الله - عليه السلام - للسهو قبل السلام على كل سهو وجب في الصلاة من نقصان أو زيادة، ويجوز أن يكون ما في حديث المغيرة من سجود رسول الله - عليه السلام - بعد السلام على كل سهو أيضا يكون في الصلاة يجب له السجود من نقصان أو زيادة، ويجوز أن يكون ما في حديث عمران وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - من سجود النبي - عليه السلام - لما زاده في الصلاة ساهيا يكون كذلك كل سجود وجب لسهو فهناك يسجد، ولا يكون قصد بذلك إلى التفرقة بين السجود للزيادة وبين السجود للنقصان، ويجوز أن يكون قد قصد بذلك إلى التفرقة بينهما.

                                                فنظرنا في ذلك فوجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد حضر سجود سهو النبي - عليه السلام - في يوم ذي اليدين للزيادة كان زادها في صلاته من تسليمه فيها، وكان سجوده ذلك بعد السلام، فوجدناه قد سجد بعد النبي - عليه السلام - لنقصان كان منه في الصلاة بعد السلام.

                                                حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد ، قال: ثنا شعبة ، قال: ثنا عكرمة بن عمار اليمامي ، عن ضمضم بن جوس الحنفي ، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب: "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى صلاة المغرب فلم [ ص: 491 ] يقرأ في الركعة الأولى شيئا فلما كانت الثالثة قرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة مرتين، فلما سلم سجد سجدتي السهو".

                                                فصار سجود رسول الله - عليه السلام - الذي قد علمه عمر - رضي الله عنه - للزيادة التي كان زادها في صلاته، وسجوده لها بعد السلام، دليلا عنده على أن حكم كل سهو في الصلاة مثله.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ; فإنه يحكي في حديثه عن رسول الله - عليه السلام - أنه سجد للسهو لأجل نقصانه من صلاته بعد السلام، ولما لم يتم الاستدلال بهذا لكونه صريحا في أن سجود السهو بعد السلام لأجل النقصان، ومذهب هؤلاء أنه بعد السلام مطلقا، أشار إلى تمام الاستدلال لمذهبهم مع بيان التوفيق بين أحاديث هذا الباب حيث قال: وهذه الأحاديث قد تحتمل وجوها، وأراد بها الأحاديث المذكورة في هذا الباب وغيره، وهي أحاديث: عبد الله بن بحينة ، ومعاوية بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وعمران بن الحصين ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، وعبد الرحمن بن عوف ، وثوبان مولى النبي - عليه السلام وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن جعفر ، وأنس بن مالك ، والمنذر بن عمرو ، وعمر بن عبيد الله بن أبي الرقاد ، وعبد الله بن مسعود ، وعائشة - رضي الله عنهم -.

                                                ولكن الطحاوي ما ذكر في تصحيح معاني هذه الأحاديث إلا أحاديث ابن بحينة ومعاوية والمغيرة وعمران وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - حيث قال: فقد يجوز أن يكون ما ذكرنا في حديث ابن بحينة ... إلى آخره.

                                                بيانه: أن حديث عبد الله بن بحينة وحديث معاوية بن أبي سفيان يحتمل أن يكون يصرفه على كل سهو وجب في الصلاة من نقصان أو زيادة، وكذلك يجوز [ ص: 492 ] أن ما في حديث المغيرة من سجود رسول الله - عليه السلام - على كل سهو أيضا سواء كان لنقصان أو زيادة، وكذلك يجوز أن يكون ما في أحاديث عمران وأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - من سجوده لأجل زيادته في صلاته ساهيا على كل سجود وجب للسهو فيسجد هناك، ولا يقصد بذلك التفرقة بين السجود للزيادة وبين السجود للنقصان، ويحتمل أيضا أن يكون قد قصد بذلك إلى التفرقة بينهما، ولكن رأينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد حضر سجود سهو النبي - عليه السلام - في يوم ذي اليدين، وكان ذلك لأجل الزيادة التي زادها في صلاته وهي تسليمه فيها، وكان سجوده ذلك بعد السلام، ثم رأينا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد سجد بعد النبي - عليه السلام - لأجل نقصان كان منه في الصلاة بعد السلام، فدل ذلك أن سجود رسول الله - عليه السلام - بعد السلام الذي قد كان عمر - رضي الله عنه - علمه لأجل الزيادة التي كان زادها في صلاته على حكم كل سهو في الصلاة سواء كان للزيادة أو للنقصان، والله أعلم.

                                                وأخرج الأثر المذكور بإسناد حسن جيد، عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن عبد الرحمن بن زياد الرصاصي وثقه أبو حاتم وغيره، عن شعبة بن الحجاج ، عن عكرمة بن عمار العجلي اليمامي روى له الجماعة البخاري مستشهدا، عن ضمضم بن جوس -بالجيم المفتوحة والواو الساكنة والسين المهملة- وثقه ابن حبان وروى له الأربعة- عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب أبي عبد الرحمن المدني، له رؤية من النبي - عليه السلام -، وأبوه حنظلة غسيل الملائكة غسلته يوم أحد ; لأنه قتل وهو جنب.

                                                فهذا الذي ذكره الطحاوي من تصحيح معاني الآثار فنقول: أما حديث ابن بحينة ومعاوية فإنهما وإن كانا قد صرحا بأنه قد سجد للسهو قبل السلام ولكن حديث المغيرة بن شعبة يعارض حديثهما ; لأنه يدل على أنه - عليه السلام - قد سجد للسهو بعد السلام، فكل واحد من أحاديث هؤلاء يجوز أن يكون على [ ص: 493 ] سهو وجب في الصلاة من نقصان أو زيادة، فصارت رواية الفعل متعارضة، فبقي لنا رواية القول سالمة من التعارض وهي رواية ثوبان - رضي الله عنه -.

                                                وأخرجها أبو داود وابن ماجه ، وأحمد وعبد الرزاق والطبراني .

                                                قال أبو داود : ثنا عمرو بن عثمان والربيع بن نافع وعثمان بن أبي شيبة وشجاع بن مخلد -بمعنى الإسناد- أن ابن عياش حدثهم، عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي ، عن زهير -يعني: ابن سالم العنسي - عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير -قال عمرو وحده-: عن أبيه، عن ثوبان ، عن النبي - عليه السلام - قال: "لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم".

                                                ولم يذكر عن أبيه غير عمرو .

                                                واستدل صاحب "الهداية" من أصحابنا بهذا الحديث في قوله: يسجد للسهو للزيادة والنقصان سجدتين بعد السلام ثم يتشهد ثم يسلم.

                                                فإن قيل: ذكر البيهقي هذا الحديث ثم قال: إسناده فيه ضعف.

                                                قلت: سكوت أبي داود يدل على أن أقل أحواله أن يكون حسنا عنده على ما عرف، وليس في إسناده من تكلم فيه سوى ابن عياش ، وبه علل البيهقي الحديث في كتاب "المعرفة" فقال: تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بالقوي.

                                                [ ص: 494 ] قلنا: هذه العلة ضعيفة فإن ابن عياش روى هذا الحديث عن شامي وهو عبيد الله الكلاعي، وقد قال البيهقي في باب: "ترك الوضوء من الدم": ما روى ابن عياش عن الشاميين صحيح.

                                                فلا ندري من أين حصل الضعف لهذا الإسناد.

                                                ثم معنى قوله: "لكل سهو سجدتان" أي سواء كان من زيادة أو نقص كقولهم: لكل ذنب توبة، وحمله على هذا أولى من حمله على أنه كلما تكرر السهو ولو في صلاة واحدة لكل سهو سجدتان كما فهمه البيهقي حتى لا تتضاد الأحاديث، وأيضا فقد جاء هذا التأويل مصرحا به في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - عليه السلام -: "سجدتا السهو تجزئان عن كل زيادة ونقصان".

                                                ذكره البيهقي في باب: "من كثر عليه السهو"، على أن البيهقي فهم من هذا اللفظ أيضا ما فهمه في هذا الباب، وبهذا لا يظهر لك أنه لا اختلاف بين حديث ثوبان وبين حديث أبي هريرة وعمران وغيرهما.

                                                فإن قيل: روايات القول أيضا متعارضة، ألا ترى إلى ما رواه عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكبر ظنك على أربع ; تشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلم، ثم تشهدت أيضا، ثم تسلم".

                                                أخرجه أبو داود .

                                                قلت: لا يضر ما ذكرت ; لأن هذا الخلاف في الأولوية فللمصلي أن يختار أي قول شاء ; لأن الأحاديث صحت في الأقوال والأفعال جميعا، على أن صاحب "البدائع" قد ذكر أن ما رواه الخصم من أنه سجد للسهو قبل السلام مجمل، [ ص: 495 ] يحتمل أنه سجد قبل السلام الأول ويحتمل أنه سجد قبل السلام الثاني، وما رويناه نحن محكم، فينصرف ما رواه إلى موافقة المحكم، وهو أنه سجد قبل السلام الأول وبعد السلام الأول ; ردا للمحتمل إلى المحكم.

                                                قلت: حديث عبد الله بن مسعود هذا رواه عنه ابنه أبو عبيدة ، وقد قالوا: إنه لم يسمع من أبيه، وقال أبو داود عقيب ذكره هذا الحديث: وكذا رواه عبد الواحد عن خصيف ولم يرفعه.

                                                ووافق عبد الواحد أيضا سفيان وشريك وإسرائيل، واختلفوا في الكلام في متن الحديث ولم يسندوه.

                                                وقال البيهقي : هذا الحديث غير قوي واختلفوا في رفعه ومتنه.

                                                وأما حديث عمران بن حصين : فأخرجه الطحاوي في الباب الذي يلي هذا الباب على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

                                                وأما حديث أبي هريرة : فقد أخرجه الطحاوي على ما مر.

                                                وأما حديث عبد الله بن عمر : فأخرجه أبو داود وابن ماجه ، وقد ذكرناه فيما مضى.

                                                وأما حديث أبي سعيد الخدري : فقد ذكر في الباب الذي قبله.

                                                وأما حديث عبد الله .




                                                الخدمات العلمية