الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2592 2593 2594 [ ص: 33 ] ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمون ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم السلمي قال : "بينما أنا مع رسول الله - عليه السلام - في صلاة إذ عطس رجل ، فقلت : يرحمك الله ، فحدقني القوم بأبصارهم ، فقلت : وا ثكل أماه ، ما لكم تنظرون إلي ؟! قال : فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت ، فلما انصرف النبي - عليه السلام - من صلاته دعاني ، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، والله ما ضربني ولا كهرني ولا سبني ، ولكن قال : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التكبير والتسبيح وتلاوة القرآن " .

                                                حدثنا يونس وسليمان بن شعيب ، قالا : ثنا بشر بن بكر ، قال : حدثني الأوزاعي ، فذكر بإسناده مثله .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا أبو عامر ، قال : ثنا فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم ، . ثم ذكر نحوه وزاد : "فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك" .

                                                أفلا ترى أن رسول الله - عليه السلام - لما علم معاوية بن الحكم ، إذ تكلم في الصلاة قال له : "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " ، ولما لم يقل له : أو ينوبك فيها شيء مما تركه إمامك فتكلم به ، دل ذلك أن الكلام في الصلاة بغير التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن يقطعها .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث معاوية بن الحكم السلمي ، لأنه - عليه السلام - لما علمه حين تكلم في الصلاة قال له : "إن صلاتنا هذه . . . " إلى آخره ، دل أن الكلام في الصلاة بغير التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن يقطعها ، وإلا لخلا كلامه عن الفائدة وذا لا يجوز . [ ص: 34 ] ثم إنه أخرج حديثه من ثلاث طرق صحاح :

                                                الأول : عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي أيضا ، وثقه ابن يونس وغيره .

                                                عن الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي روى له الجماعة ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الإمام المشهور ، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي ، روى له الجماعة . عن هلال بن أبي ميمونة العامري ، روى له الجماعة ، عن عطاء بن يسار الهلالي أبي محمد القاضي المدني روى له الجماعة ، عن معاوية بن الحكم السلمي الصحابي - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي بأتم منه .

                                                وقال مسلم : نا أبو جعفر محمد بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة وتقاربا في اللفظ ، قالا : ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن حجاج الصواف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم السلمي قال : "بينا أنا أصلي مع رسول الله - عليه السلام - إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ; فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : وا ثكل أمياه ، ما شأنكم تنظرون إلي ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله - عليه السلام - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، ثم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن . أو كما قال رسول الله - عليه السلام - ; فقلت : يا رسول الله ، إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالا يأتون الكهان . قال : فلا تأتهم . قال : ومنا رجال يتطيرون . قال : ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم ، وقال ابن الصباح : فلا يصدنكم ، قال : فقلت : ومنا رجال يخطون ، [ ص: 35 ] قال : كان نبي من الأنبياء يخط ، فمن وافق خطه فذاك ، قال : وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها ، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون ، لكني صككتها صكة ، فأتيت رسول الله - عليه السلام - فأخبرته ، فعظم ذلك علي ، قلت يا رسول الله ، أفلا أعتقها قال : ائتني بها ، فأتيت بها ، فقال لها : أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : اعتقها فإنها مؤمنة .

                                                وقال : أبو داود : ثنا مسدد ، ثنا يحيى .

                                                ونا عثمان بن أبي شيبة ، نا إسماعيل يعني ابن إبراهيم -المعنى- عن حجاج الصواف ، عن يحيى بن أبي كثير . . . إلى آخره نحوه ، وفيه اختلاف يسير .

                                                وقال النسائي : أنا إسحاق بن منصور ، قال : ثنا محمد بن يوسف ، قال : ثنا الأوزاعي ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، قال : حدثني عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم السلمي قال : "قلت يا رسول الله ، أنا حديث عهد بالجاهلية ، فجاء الله بالإسلام ، وإن رجالا منا يتطيرون . قال : ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم ، ورجال منا يأتون الكهان ، قال : فلا يأتوهم . قال : يا رسول الله ورجال منا يخطون . قال : كان نبي من الأنبياء يخط ، فمن وافق خطه فذاك . قال : وبينا أنا مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة إذ عطس رجل من القوم . . . " إلى قوله : "وتلاوة القرآن " نحو رواية الطحاوي ، وبعده قال : "ثم اطلعت إلى غنيمة لي ترعاها جارية لي من قبل أحد والجوانية ، وإني اطلعت فوجدت الذئب قد ذهب منها من شاة ، وأنا رجل من بني آدم ، آسف كما يأسفون ، فصككتها صكة ، ثم انصرفت إلى رسول الله - عليه السلام - فأخبرته ; فعظم ذلك علي ، فقلت : يا رسول الله! أفلا أعتقها ؟ قال : ادعها فقال لها رسول الله - عليه السلام - أين الله ؟ قالت : في السماء . قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، قال : إنها مؤمنة فأعتقها . [ ص: 36 ] الثاني : عن يونس بن عبد الأعلى المصري وسليمان بن شعيب الكيساني ، كلاهما ، عن بشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي ومن رجال البخاري ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن يحيى . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه " : من حديث الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، حدثني معاوية بن الحكم ، قال : "بينا أنا مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة . . . " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء .

                                                الثالث : عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة المدني ، عن هلال بن علي وهو هلال بن أبي ميمونة المذكور في الحديث السابق ، عن عطاء بن يسار المدني . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا محمد بن يونس ، نا عبد الملك بن عمرو ، نا فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم السلمي قال : "قدمت على رسول الله - عليه السلام - علمت أمورا من أمور الإسلام فكان فيما علمت : أن قيل لي : إذا عطست فاحمد الله ، وإذا عطس العاطس فحمد الله ، فقل : يرحمك الله . قال فبينا أنا قائم مع رسول الله - عليه السلام - في الصلاة إذ عطس رجل ، فحمد الله ، فقلت : يرحمك الله -رافعا بها صوتي- فرماني الناس بأبصارهم ، حتى احتملني ذلك فقلت : ما لكم تنظرون إلي بأعين شزر ؟! قال : فسبحوا ، فلما قضى النبي - عليه السلام - الصلاة ، قال : من المتكلم ؟ قيل : هذا الأعرابي ; فدعاني رسول الله - عليه السلام - فقال : إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله ، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك ، فما رأيت معلما قط أرفق من رسول الله - عليه السلام - " .

                                                قوله : "بينا " أصله "بين " فأشبعت الفتحة فصارت ألفا ، فقيل : "بينا " وقد تدخل فيه الميم فيقال : "بينما " وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ، ويضافان إلى [ ص: 37 ] جملة من فعل وفاعل ، ومبتدأ وخبر ، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى ، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا ، وقد جاء في الجواب كثيرا تقول : بينما زيد جالس دخل عليه عمرو ، وإذ دخل عليه عمرو ، وإذا دخل عليه عمرو وها هنا جوابه قوله : "إذ عطس " .

                                                قوله : "فحدقني القوم " بتخفيف الدال ، ومعناه : رموني بأبصارهم وحدقهم ، وهي جمع حدقة وهي العين ، ويروى : "فحدقني " بتشديد الدال ، من التحديق : وهو شدة النظر .

                                                قوله : "وا ثكل أماه " الثكل بضم الثاء المثلثة وإسكان الكاف ، وبفتحهما جميعا لغتان كالنحل والنحل ، حكاهما الجوهري وغيره ، وهو : فقدان المرأة ولدها ، وامرأة ثكلى وثاكل ، وثكلته أمه -بكسر الكاف- وأثكله الله أمه ، وثكلت المرأة وأثكلت : فقدت ولدها ، والواو في قوله : "وا ثكل " تسمى واو الندبة ، نحو وا زيداه ، والندبة والندب : لغة من ندبت الميت إذا بكيت عليه ، وعددت محاسنه ، وأصله من ندبه : إذا حثه ، كأن الحزن يحث النادب على مد الصوت باسم الميت ، ودعاء الناس إلى التضجر معه ، والأولى بالندبة : النساء لضعفهن عن تحمل المصيبة ، فيبنى المفرد على ما يرفع ، نحو : وا زيداه ، وا زيدان وينصب المضاف وشبهه نحو : وا عبد الله ، ثم يلحقونه حرف مد ليطول الصوت به فيكون أظهر للغرض ، وهو التفجع وإظهار اسم المندوب ، فيقال : وا زيداه واختير الألف ; لأنه أقعد في المد من أختيها ، أو لأنها أخف ، وزيادتها أكثر ، ولا يلحق الألف المضاف عند الإضافة لئلا يلزم الفصل بين المضاف والمضاف إليه ، بل يلحق المضاف إليه نحو : وا عبد اللاه وإن كان المضاف إليه منونا فسيبويه يحذف تنوينه نحو : وا غلام زيداه ، ثم ها هنا .

                                                قوله : "وا ثكل أماه " مضاف ومضاف إليه ، فدخل الألف في المضاف إليه ، وهو أماه ، وفي رواية : "أمياه " قال المطرزي : حديث ابن الحكم : "وا ثكل أماه " ، وروي "أمياه " الأولى بإسقاط ياء المتكلم مع ألف الندبة ، والثانية بإثباتها ، والهاء للسكت ، ثم قيل : إن الميم مكسورة ، ولقد سمعت بعض من أثق به من أهل الحديث بضم [ ص: 38 ] الهمزة وفتح الميم المشددة وكذا وجدته مضبوطا بخط المطرزي ، وقد قلنا : إن الهاء للسكت ، دخلت لتتبين بها الألف ; لأنها حرف خفي ، فالوقف عليه يزيدها خفاء .

                                                قوله : "فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم " معناه : فعلوا هذه الفعلة ليسكتوه وهذا محمول على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته ، قال عياض : يحتمل أنه كان قبل نهي النبي - عليه السلام - عن التصفيق في الصلاة والأمر بالتسبيح ، وقد يحتمل أن هذا تفسير التصفيق في حديث أبي بكر - رضي الله عنه - على ما أشار إليه بعضهم .

                                                قوله : "فلما رأيتهم يسكتوني " جواب "لما " محذوف تقديره : ما خالفتهم لكني سكت .

                                                قوله : "يسكتوني " والأصل فيه : "يسكتونني " بنونين ، فحذفت نون الوقاية للتخفيف ، ويجوز أن يكون المحذوف "نون " الجمع ، على لغة من يرى حذفها بدون الجازم والناصب ، فافهم .

                                                قوله : "فبأبي وأمي " هو هكذا في رواية النسائي ، وفي رواية مسلم : "بأبي هو وأمي " فقوله : "هو " مبتدأ ، وخبره قوله : "فبأبي " ، وقوله : "أمي " عطف عليه ، والمعنى هو مفدى بهما ، وفي بعض نسخ الطحاوي : "بأبي وأمي هو " ومعناه أيضا : هو مفدى بأبي وأمي ، أو : فديته بأبي وأمي ، فعلى الأول محل الياء رفع ، وعلى الثاني جر ، فافهم .

                                                قوله : "ولا كهرني " معناه : ولا انتهرني ، ولا أغلظ لي ، وقيل : الكهر : استقبالك الإنسان بالعبوس ، وقرأ بعض الصحابة (فأما اليتيم فلا تكهر) وقيل : كهره ونهره بمعنى .

                                                قوله : "بالجاهلية " والجاهلية : ما قبل ورود الشرع ، سموا جاهلية لكثرة جهالتهم وفحشها . [ ص: 39 ] قوله : "يأتون الكهان " بضم الكاف جمع كاهن ، وهو الذي يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل ، ويدعي معرفة الأسرار .

                                                و"العراف " الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما ، وبهذا حصل الفرق بينهما ، وإنما نهى عن إتيان الكهان ; لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة ، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك ; لأنهم يلبسون على الناس كثيرا من أمر الشرائع ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون ، وتحريم ما يعطون من الحلوان ، وهو حرام بإجماع المسلمين ، وقد نقل الإجماع في تحريمه جماعة ، منهم : أبو محمد البغوي ، وقال الخطابي : كان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيرا من الأمور ، فمنهم من يزعم أن له رئيسا من الجن يلقي إليه الأخبار ، ومنهم من يدعي استدراك ذلك بفهم أعطيه ، ومنهم من سمي عرافا وهو الذي يزعم معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها لمعرفة من سرق الشيء الفلاني ومعرفة من يتهم به ونحو ذلك ، ومنهم من يسمي المنجم كاهنا .

                                                قوله : "يتطيرون " من التطير وهو التشاؤم بالشيء ، وكذلك الطيرة ، وهي مصدر تطير أيضا ، يقال : تطير طيرة كتخير خيرة ، ولم يجئ من المصادر هكذا غيرها ، وأصله فيما يقال : التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما ، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه .

                                                قوله : "ذاك شيء يجدونه في صدورهم " معناه : أن الطيرة شيء يجدونه في نفوسهم ضرورة ولا عتب عليهم في ذلك ; فإنه غير مكتسب لهم ، فلا تكليف به ، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في مقاصدكم .

                                                قوله : "لا يصدهم " أي : فلا يصدهم ذلك عن التصرفات .

                                                قوله : "يخطون " من الخط ، هو الضرب في الرمل على ما ذكر في كيفيته وقال ابن الأعرابي في تفسير الخط : كان الرجل يأتي العراف وبين يديه غلام ، فيأمره بأن يخط [ ص: 40 ] في الرمل خطوطا كثيرة وهو يقول : ابني عيان أسرعا البيان ، يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين ، ثم ينظر إلى آخر ما يبقى من تلك الخطوط ، فإن كان الباقي منها تفسد ، وفي "المحيط " : رجل عطس فقال المصلي : يرحمك الله ، أو يرحمك ربك تفسد صلاته ; لأنه من كلام الناس بمنزلة قوله : أطال الله بقاءك وعافاك الله ، ولو قال له : الحمد لله لم تفسد ، وإن أراد به الجواب ; لأن التحميد لا يستعمل في جواب العاطس ، وإذا عطس وخاطب نفسه فقال : يرحمك الله لم يضره ; لأنه لم يخاطب غيره ، وإنما يدعو لنفسه .

                                                وقال : الشيخ محيي الدين النووي : وقال أصحابنا إن قال : يرحمك الله أو يرحمكم الله بكاف الخطاب ، بطلت صلاته ، وإن قال : يرحمه الله ، أو اللهم ارحمه ، أو رحم الله فلانا لم تبطل صلاته ; لأنه ليس بخطاب ، وأما العاطس في الصلاة فيستحب له أن يحمد الله سرا هذا مذهبنا وبه قال مالك وغيره ، وعن ابن عمر والنخعي وأحمد : يجهر به ، والأول أظهر .

                                                والخامس : فيه دليل على تحريم الكهانة والعرافة والإتيان إلى الكهان والعرافين وتصديق كلامهم كما قد ذكرناه .

                                                السادس : فيه دليل على تحريم التطير والتشاؤم كما ذكرنا .

                                                السابع : فيه دليل على جواز الفعل القليل في الصلاة ، وأنه لا تبطل به الصلاة ، وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة ، دل على ذلك قوله : "فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم "

                                                الثامن : فيه دليل على أن إعتاق المؤمن أفضل من إعتاق الكافر .

                                                التاسع : فيه دليل أن الكافر الذي لا يعتقد دينا باطلا ولا يعرف إلا الله إذا أقر بالله وبرسالة نبيه - عليه السلام - يحكم بإيمانه وإسلامه ، وأما الكافر الذي يعتقد دينا من [ ص: 41 ] الأديان الباطلة أو كتابا من الكتب السماوية فلا يحكم بإسلامه بمجرد الإقرار بالله ورسوله حتى يتبرأ عما يعتقده من الدين الباطل .

                                                العاشر : فيه سيرة رسول الله - عليه السلام - في التعليم من الرفق بالجاهل ، وترك الغضب عليه إذا لم يقصد مخالفة ، وفيه تنبيه لغيره أن يسلك مسلكه في تعليم غيره ، فافهم .

                                                فإن قيل : استدلالكم بهذا الحديث لا يتم ; لأنه لا يدل على أن الكلام ناسيا في الصلاة يفسدها ; وذلك لأن النبي - عليه السلام - علمه أحكام الصلاة وتحريم الكلام فيها ، ثم لم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها معه ، وقد كان تكلم بما تكلم به ، ولا فرق بين من تكلم جاهلا بتحريم الكلام عليه ، وبين من تكلم ناسيا لصلاته ، في أن كل واحد منهما قد تكلم ، والكلام مباح له عند نفسه .

                                                قلت : لا نسلم أن كلام معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - على وجه السهو والنسيان ، بل كان عامدا ولكن كان جاهلا بتحريم الكلام ، وقولكم : ثم لم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها معه ، فيحتمل أن يكون أمره بذلك ولم ينقل إلينا ، فإذا احتمل عدم أمره بالإعادة وأمره بالإعادة كان الرجوع إلى عموم قوله : "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " في دلالته على بطلان الصلاة بالكلام سواء كان عامدا أو ناسيا أو جاهلا ، فالحديث لا يدل على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة ، فافهم .




                                                الخدمات العلمية