الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2853 2854 2855 2856 2857 2858 2859 ص: وقد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج بن المنهال ، قال : أنا حماد بن سلمة ، قال : ثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة بن قيس ، قال : "قدم ناس من أهل الشام ، فمات لهم ميت ، فكبروا عليه خمسا ، فأردت أن ألاحيهم ، فأخبرت ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال : ليس فيه شيء معلوم " .

                                                فهذا عندنا يحتمل ما ذكرنا في اختلاف حكم الصلاة على البدريين وعلى غيرهم ، فكان عبد الله أراد بقوله "ليس فيه شيء معلوم " أي ليس فيه شيء يكبر في الصلاة على الناس جميعا لا يجاوز إلى غيره ، وقد روي هذا الحديث بغير هذا اللفظ .

                                                حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : ثنا الشيباني ، قال : ثنا عامر ، عن علقمة ، أنه ذكر ذلك لعبد الله ، فقال عبد الله : " إذا تقدم الإمام فكبروا بما كبر ; فإنه لا وقت ولا عدد " .

                                                وهذا عندنا معناه ما ذكرنا أيضا ; لأن الإمام قد كان يصلي حينئذ على بدريين وعلى غيرهم ، فإن صلى على البدريين فكبر عليهم كما يكبر على البدريين -وذلك ما فوق الأربع- فكبروا ما كبر ، وإن صلى على غير البدريين فكبر أربعا -كما يكبر عليهم- فكبروا كما كبر لا وقت ولا عدد في التكبير في الصلاة على جميع الناس من البدريين وغيرهم لا يجاوز ذلك إلى ما هو أكثر منه . وقد روي هذا الحديث أيضا ، عن عبد الله بغير هذا اللفظ .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا أبو غسان ، قال : ثنا زهير ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : التكبير على الجنازة لا وقت ولا عدد إن شئت أربعا وإن شئت خمسا ، وإن شئت ستا " . فهذا معناه غير معنى ما حكى عامر عن علقمة ، وما حكى عامر عن علقمة من هذا فهو أثبت ; لأن عامرا قد لقي [ ص: 361 ] علقمة وأخذ عنه ، وأبو إسحاق فلم يلقه ولم يأخذ عنه ، ولأن عبد الله قد روي عنه في التكبير أنه أربع ، من غير هذا الوجه .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا وهب ، قال : نا شعبة ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي عطية ، قال : سمعت عبد الله - رضي الله عنه - يقول : " التكبير على الجنائز أربع كالتكبير في العيدين " .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا أبو نعيم (ح).

                                                وحدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا مؤمل قالا : ثنا سفيان ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي عطية ، عن عبد الله ، قال : " التكبير في العيدين أربع كالصلاة على الميت " .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا روح ، قال : ثنا شعبة ، عن علي بن الأقمر . . فذكر بإسناده مثله .

                                                فهذا عبد الله لما سئل عن التكبير على الجنازة ; أخبر أنه أربع ، وأمرهم في حديث علقمة أن يكبروا ما كبر أئمتهم ; فلو انقطع الكلام على ذلك لكان وجه حديثه عندنا على أن أصل التكبير عنده أربع ، وعلى أن من صلى خلف من يكبر أكثر من أربع كبر كما كبر إمامه ; لأنه قد فعل ما قد قاله بعض العلماء ، وقد كان أبو يوسف يذهب [إلى هذا] القول ولكن الكلام لم ينقطع على ذلك ، وقال : "لا وقت ولا عدد " فدل ذلك على أن معناه في ذلك : لا وقت عندي للتكبير في الصلاة على الجنائز ولا عدد ، على المعنى الذي ذكرناه في أهل بدر وغيرهم ، أي لا وقت ولا عدد في التكبير في الصلاة على الناس جميعا ، ولكن جملته : لا وقت لها ولا عدد إن كان أهل بدر هكذا حكم الصلاة عليهم والصلاة على غيرهم ، على ما روى عنه أبو عطية ، ; حتى يتضاد شيء من ذلك .

                                                التالي السابق


                                                ش: لما كان ما روي عن ابن مسعود . [ ص: 362 ] وهو الذي أخرجه بإسناد صحيح : عن محمد بن خزيمة بن راشد ، عن الحجاج بن منهال الأنماطي البصري شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند دينار البصري ، روى له الجماعة البخاري مستشهدا ، عن عامر الشعبي ، عن علقمة بن قيس بن عبد الله أبي شبل النخعي الكوفي روى له الجماعة - ينافي ما ذكره من انتساخ حكم التكبير الزائد على الأربع بحسب الظاهر ، أورده أولا ثم أورد عنه أيضا ما روى على الاختلاف في المعنى واللفظ ; ليوجه ذلك ويصحح معانيه وينزلها على ما ذكره أولا ، ويدفع بذلك أيضا ما يظهر بين رواياته من التنافي والتضاد .

                                                بيان ذلك : أن قوله ليس فيه شيء معلوم يفهم منه بحسب الظاهر أي لا ينحصر التكبير في الجنازة على الأربع ، ولكن يحتمل أن يكون معناه مثل ما ذكرنا في اختلاف حكم الصلاة على من كان من أهل بدر وعلى من كان من غيرهم ، والمعنى ليس فيه شيء أنه يكبر في الصلاة على الناس جميعا لا يجاوز إلى غيره ، يعني إن كان من البدريين لا يجاوز التكبير عليهم عن ما روي من الست والسبع والتسع ، وإن كان من غيرهم لا يجاوز عن الأربع .

                                                وقد روي هذا الحديث -يعني حديث ابن مسعود هذا- بغير اللفظ المذكور .

                                                وهو ما أخرجه أيضا بإسناد صحيح : عن أحمد بن داود المكي ، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود ، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري ، روى له الجماعة ، عن سليمان بن أبي سليمان الشيباني ، روى له الجماعة ، عن عامر الشعبي ، عن علقمة بن قيس ، أنه ذكر ذلك .

                                                وأشار به إلى قوله : "قدم ناس من أهل الشام فمات لهم ميت ، فكبروا عليه خمسا ، فقال عبد الله بن مسعود : إذا تقدم الإمام فكبروا بما كبر ; فإنه لا وقت ولا عدد " . [ ص: 363 ] وأخرجه ابن أبي شيبة : ثنا وكيع ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن علقمة بن قيس : "أنه قدم من الشام فقال لعبد الله : إني رأيت معاذ بن جبل وأصحابه بالشام يكبرون على الجنائز خمسا ، فوقتوا لنا وقتا نتابعكم عليه ، قال : فأطرق عبد الله ساعة ثم قال : كبروا ما كبر إمامكم ، لا وقت ولا عدد " . وهذا الحديث أيضا معناه ما ذكر الآن ، يعني : إن كان الإمام يصلي على البدريين فكبروا مثل ما كبر ستا أو سبعا أو تسعا لا يجاوز إلى غير ذلك ، وإن كان يصلي على غيرهم فكبروا أربعا ، لا يجاوز ذلك إلى ما هو أكثر منه .

                                                وقد روي هذا الحديث المذكور عن عبد الله بغير اللفظ المذكور .

                                                وهو ما أخرجه بإسناد منقطع على ما نبينه : عن فهد بن سليمان ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري ، عن زهير بن معاوية روى له الجماعة ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : "التكبير على الجنازة لا وقت ولا عدد . . . " إلى آخره .

                                                وهذا يخالف ما رواه عامر الشعبي عن علقمة ، ولكن هذا منقطع ; لأن أبا إسحاق لم يلق علقمة ولا أخذ منه ، والذي رواه الشعبي عنه صحيح متصل ; لأن الشعبي لقي علقمة وأخذ عنه ; فإذا كان كذلك لا يعارض هذا ما رواه الشعبي عن علقمة عن عبد الله .

                                                ثم أشار إلى بيان صحة التأويل الذي ذكره وإلى ضعف ما رواه أبو إسحاق عن علقمة بقوله : "ولأن عبد الله قد روي عنه في التكبير أنه أربع " .

                                                وأخرجه من أربع طرق صحاح :

                                                الأول : عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير ، عن شعبة ، عن علي بن الأقمر بن عمرو بن الحارث الوادعي أبي الوازع الكوفي روى له الجماعة ، عن [ ص: 364 ] أبي عطية الوادعي الكوفي اسمه مالك بن أبي حمرة ، وقيل : مالك بن عامر ، وقيل : عمرو بن جندب ، وقيل : غير ذلك ، روى له الجماعة سوى ابن ماجه .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : ثنا وكيع ، عن مسعر وسفيان وشعبة ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي عطية قال : قال عبد الله : "التكبير على الجنائز أربع تكبيرات بتكبيرة الخروج " .

                                                الثاني : عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن سفيان ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي عطية ، عن عبد الله .

                                                الثالث : عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي ، عن سفيان ، عن علي بن الأقمر . . . إلى آخره .

                                                الرابع : عن أبي بكرة أيضا ، عن روح بن عبادة شيخ البخاري ، عن شعبة ، عن علي بن الأقمر ، عن أبي عطية ، عن عبد الله .

                                                قوله : "فهذا عبد الله لما سئل . . . " إلى آخره ، بيانه : أن عبد الله بن مسعود لما سئل عن تكبيرات الجنازة قال : أربع ، فدل على أن مذهبه في هذا هو مذهب ما ذهب إليه من يقول بانتساخ ما زاد على الأربع ، غير الزيادة التي في حكم البدريين ، والباقي ظاهر .

                                                قوله : "لأنه قد فعل ما قد قاله بعض العلماء " أي لأن من صلى خلف من يكبر أكثر من أربع فعل في متابعته إمامه في تلك الزيادة ما قد قاله بعض العلماء ، وهم بكر بن عبد الله وأحمد بن حنبل في رواية وطائفة من الظاهرية .

                                                وقد كان أبو يوسف أيضا يذهب إلى هذا القول .

                                                وقال ابن قدامة : ظاهر كلام الخرقي : أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأموم ، وإذا زاد على خمس فعن أحمد يتابع إمامه إلى سبع ، ثم لا يزاد على سبع ، ولا يسلم إلا مع الإمام ، وهذا قول بكر بن عبد الله المزني . [ ص: 365 ] قوله : "أن ألاحيهم " من الملاحاة -بالحاء المهملة- وهي المنازعة ، ومنه حديث ليلة القدر : "تلاحى رجلان فرفعت " أي تنازع . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية