الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2888 2889 2890 ص: وقد روي أيضا عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - : "أن النبي - عليه السلام - صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين " .

                                                حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو ، وابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أن أبا الخير أخبره ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : " إن آخر ما خطب لنا رسول الله - عليه السلام - أنه صلى على شهداء أحد ، ثم رقى على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إني لكم فرط ، وأنا شهيد عليكم " .

                                                حدثنا علي بن معبد ، قال : ثنا يونس بن محمد ، قال : ثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر : " أن رسول الله - عليه السلام - خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت " . . [ ص: 396 ] ففي حديث عقبة أن رسول الله - عليه السلام - صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين فلا تخلو صلاته عليهم في ذلك الوقت من أحد ثلاثة معان : إما أن تكون سنتهم كانت أن لا يصلى عليهم ، ثم نسخ ذلك الحكم بعد بأن يصلى عليهم .

                                                أو تكون تلك الصلاة التي صلاها عليهم تطوعا وليس للصلاة عليهم أصل في السنة والإيجاب .

                                                أو يكون من سنتهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن ويصلى عليهم بعد طول المدة .

                                                لا يخلو فعله - عليه السلام - من هذه المعاني الثلاث ، فاعتبرنا ذلك ، فوجدنا أمر الصلاة على سائر الموتى هو أن يصلى عليهم قبل دفنهم ، ثم تكلم الناس في التطوع عليهم قبل أن يدفنوا أو بعدما يدفنون ، فجوز ذلك قوم وكرهه آخرون ، فأمر السنة فيه أوكد من التطوع ; لاجتماعهم على السنة واختلافهم في التطوع ، فإن كان قتلى أحد ممن تطوع بالصلاة عليهم فإن في ثبوت ذلك ثبوت السنة في الصلاة عليهم قبل أوان وقت التطوع بها عليهم وكل تطوع فله أصل في الفرض ، فإن ثبت أن تلك الصلاة كانت من النبي - عليه السلام - تطوعا تطوع به فلا يكون ذلك إلا والصلاة عليهم سنة كالصلاة على غيرهم ، وإن كانت صلاته عليهم لعلمه نسخ فعله الأول وتركه الصلاة عليهم ; فإن صلاته هذه عليهم توجب أن من سنتهم الصلاة عليهم ، وأن تركه الصلاة عليهم عند دفنهم منسوخ ، وإن كانت صلاته عليهم إنما كانت لأن هكذا سنتهم أن لا يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة ، وأنهم خصوا بذلك ، فقد يحتمل أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء أن لا يصلى عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة ، ويجوز أن يكون سائر الشهداء تعجل الصلاة عليهم غير شهداء أحد ; فإن سنتهم كانت تأخير الصلاة عليهم ، إلا أنه قد ثبت بكل هذه المعاني أن من سنتهم ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن ثم كان الكلام بين المختلفين في وقتنا هذا إنما [ ص: 397 ] هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن ثم كان الكلام بين المختلفين في وقتنا هذا إنما هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن أو في تركها البتة ، فلما ثبت في هذا الحديث الصلاة عليهم بعد الدفن كانت الصلاة عليهم قبل الدفن أحرى وأولى .

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر حديث عقبة هذا لتأكيد صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من إثبات الصلاة على الشهداء ، وشاهدا لما ذكر من الدلائل الدالة على ذلك .

                                                وأخرجه من طريقين :

                                                الأول : بإسناد صحيح ; لأن رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا عبد الله بن لهيعة فهو وإن كان فيه مقال ، ولكنه ذكر متابعة ، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري .

                                                وأخرجه مسلم في فضائل النبي - عليه السلام - قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، ثنا ليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر فقال : إني فرط لكم ، وأنا شهيد عليكم . . . " الحديث .

                                                الثاني : أيضا بإسناد صحيح ; لأن رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن معبد فإنه أيضا ثقة ، ويونس بن محمد بن مسلم البغدادي أبو محمد المؤدب روى له الجماعة .

                                                وأخرجه البخاري في المغازي في غزوة أحد : حدثني عمرو بن خالد ، ثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر : "أن النبي - عليه السلام - خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر فقال : إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم ، وإني لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح [ ص: 398 ] خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض ، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها " .

                                                قوله : "ثم رقى " أي صعد ، من رقيت في السلم -بالكسر- رقيا ورقيا إذا صعدت ، وارتقيت مثله ، ورقى عليه ترقية إذا رفع ، وترقى في العلم أي رقى فيه درجة درجة .

                                                قوله : "فرط " بفتح الراء هو الذي يتقدم الوارد فيهيئ لهم ما يحتاجون إليه ، والمراد به ها هنا الثواب والشفاعة ، والنبي - عليه السلام - يتقدم أمته ليشفع لهم وكذلك الولد لأبويه يقال : فرطهم يفرطهم فهو فارط وفرط ، والجمع : فراط .

                                                قوله : "ففي حديث عقبة أن رسول الله - عليه السلام - صلى على قتلى أحد بعد مقتلهم بثمان سنين " وذلك لأن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة وكانت صلاته - عليه السلام - عليهم عقيب خطبته التي هي آخر خطبه .

                                                قوله : "فلا يخلو . . . " إلى آخره ، ملخص هذا : أن صلاته - عليه السلام - في ذلك الوقت إما لأن السنة كانت أن لا يصلى عليهم أولا ثم نسخ ذلك وسير إلى الصلاة حتى صلى عليهم بعد المدة الطويلة .

                                                وإما كانت هذه الصلاة تطوعا من النبي - عليه السلام - وليس للصلاة عليهم أصل لا من حيث السنة ولا من حيث الوجوب .

                                                وإما كانت السنة في حقهم أن لا يصلى عليهم بحضرة الدفن بل بعد مدة طويلة ، وأمر الصلاة في حق غيرهم أن يكون قبل دفنهم ، ولكن اختلفوا في صلاة التطوع عليهم ، قبل الدفن أو بعده ؟ فمنهم من أجاز ذلك وهو معنى قوله : "فجوز ذلك قوم " وأراد بهم : الشافعي وأحمد وإسحاق ، ومنهم من كره ذلك وهو معنى قوله : "وكرهه آخرون " أي جماعة آخرون ، وأراد بهم : أبا حنيفة ومالكا وأبا يوسف ومحمدا وأحمد في رواية ، ولكن أمر السنة في هذا آكد من التطوع للاتفاق من الكل على السنة والاختلاف منهم في التطوع ، ثم لا يخلو قتلى أحد إما أن يكونوا [ ص: 399 ] ممن تطوع عليهم فإن كان هذا ففيه ثبوت السنة من الصلاة عليهم كالصلاة على غيرهم ; لأن كل تطوع له أصل في الفرض ، وإلا فإن كانت صلاته - عليه السلام - عليهم لانتساخ ما كان من الترك ابتداء ، ففيه ثبوت سنية الصلاة عليهم في الوقت الذي صلى عليهم ، وفيه دليل على نسخ ترك الصلاة عند دفنهم ، وإلا فإن كانت صلاته لأجل أن السنة أن لا يصلى عليهم إلا بعد هذه المدة ، وأنهم مخصوصون بذلك دون سائر القتلى ، ففيه احتمال أن يكون كذلك حكم سائر الشهداء أن لا يصلى عليهم إلا بعد مضي مثل هذه المدة ، ولكنه يجوز تعجيل الصلاة على سائر الشهداء غير شهداء أحد ; فإن السنة في حقهم تأخير الصلاة عليهم ، وأيا ما كان من هذه المعاني ففيه ثبوت الصلاة عليهم إما بعد حين وإما قبل الدفن ، والكلام بين المخالفين في هذه الأيام إنما هو في إثبات الصلاة عليهم قبل الدفن كما هو مذهب أهل المقالة الثانية ، أو في ترك الصلاة عليهم بالكلية كما هو مذهب أهل المقالة الأولى ، وقد أثبتنا بالتقسيمات المذكورة ثبوت الصلاة عليهم بعد الدفن ، فإذا كانت بعد الدفن ثابتة على ما دل عليه صريح الحديث ، مع أنه مخالف للنظر ; فثبوتها قبل الدفن أحرى وأجدى ، لكونه على وفق النظر والقياس ، فافهم . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية