الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2891 ص: وأما النظر في ذلك : فإنا رأينا الميت حتف أنفه يغسل ويصلى عليه ، ورأيناه إذا صلي عليه ولم يغسل كان في حكم من لم يصل عليه ، فكانت الصلاة عليه مضمنة بالغسل الذي يتقدمها ، فإن كان الغسل قد كان جازت الصلاة عليه ، وإن لم يكن غسل لم تجز الصلاة عليه ، ثم رأينا الشهيد قد سقط عنه أن يغسل ; فالنظر على ذلك أن يسقط ما هو مضمن بحكم الغسل ، ففي هذا ما يوجب ترك الصلاة عليه ، إلا أن في ذلك معنى ، وهو أنا رأينا غير الشهيد يغسل ليطهر ، وهو قبل أن يغسل في حكم غير الطاهر لا تنبغي الصلاة عليه ولا دفنه على حاله تلك حتى ينقل عنها بالغسل ، ثم رأينا الشهيد لا بأس بدفنه على حاله تلك قبل أن يغسل ، وهو في حكم سائر الموتى الذين قد غسلوا ; فالنظر على ذلك أن يكون في الصلاة عليهم في حكم سائر الموتى الذين غسلوا ; هذا هو النظر في هذا الباب مع ما قد شهد له من الآثار ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد .

                                                التالي السابق


                                                ش: ملخص هذا الكلام : أن النظر والقياس يشهد لما قاله أهل المقالة الأولى ; لأن الصلاة على الميت مترتبة على الغسل ، ألا ترى أن الميت حتف أنفه إذا لم يغسل لا يصلى عليه ؟ فالقياس على ذلك أن لا يصلى على الشهيد ; لأنه لا يغسل بلا خلاف ، ولكن فيه معنى آخر ينظر إليه ، وهو أن غير الشهيد إنما يغسل ليطهر لأجل الصلاة عليه والشهيد في حكم الموتى الذين غسلوا ; لأن السيف قد طهره ، فكأنه مغسول ، حقيقة فيصلى عليه .

                                                قوله : "مضمنة بالغسل " بفتح الميم الثانية . [ ص: 403 ] قوله : "يغسل ليطهر وهو قبل أن يغسل في حكم غير الطاهر " فيه بحث ، وهو أن الميت هل يتنجس بالموت أم لا ؟ فيه أقوال :

                                                فقال العراقيون من أصحابنا : يجب الغسل لنجاسة الميت لا بسبب الحدث ; لأن للآدمي دما سائلا كالحيوانات الباقية فيتنجس بالموت قياسا على غيره منها ، ألا ترى أنه إذا مات في البئر نجسها ولو حمله المصلي لم تجز صلاته ولو لم يكن نجسا لجازت ، كما لو حمل محدثا ويجوز أن تزول نجاسته بالغسل كرامة .

                                                وقال الآخرون : الآدمي لا ينجس لا حيا ولا ميتا ، وإنما وجب الغسل لحدث يحله باسترخاء المفاصل لا لنجاسة تحل به إذ لو كان يتنجس بالموت لما طهر بالغسل كسائر الحيوانات .

                                                وقال الآخرون : هو أمر تعبدنا به كرامة للميت إذ المؤمن مكرم حيا وميتا .

                                                فإن قيل : فعلى القول الثاني كان ينبغي أن يقتصر في الغسل على أعضاء الوضوء كما في حال الحياة .

                                                قلت : نعم كان القياس ذلك ، ولكن لما حل الحدث في سائر بدنه وجب غسل جميعه ، وليس فيه حرج ; لأن الحدث بسبب الموت لا يتكرر ، فكان كالجنابة لا يكتفى فيها بغسل الأعضاء الأربعة بخلاف حالة الحياة ، حيث اكتفي فيها بالأعضاء الأربعة للحرج فيما يتكرر كل يوم ، فافهم .

                                                فإن قيل : أي قول من هذه الأقوال أصوب ؟

                                                قلت : قول من قال : إن الميت لا يتنجس بالموت .

                                                وذلك لما روى ابن أبي شيبة في "مصنفه " : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال : "لا تنجسوا موتاكم ; فإن المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا " . [ ص: 404 ] وأخرجه الحكم مرفوعا وقال : صحيح على شرطهما .

                                                وأخرج الحكم أيضا : من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليس عليكم من غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه ; فإن ميتكم ليس بنجس ، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم " .

                                                وقال : صحيح الإسناد على شرط البخاري ، وفيه رفض لحديث مختلف فيه على محمد بن عمرو بأسانيد : "من غسل ميتا فليغتسل " .

                                                فإن قيل : روي عن عائشة - رضي الله عنها - : "أن النبي - عليه السلام - كان يغتسل من أربع : من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت " .

                                                وهو حديث أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه " وقال البيهقي : رواته كلهم ثقات . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ " .

                                                أخرجه ابن حبان في "صحيحه " وقال الترمذي : حديث حسن .

                                                قلت : قال الحاكم : قال محمد بن يحيى الذهلي : لا نعلم فيمن غسل ميتا فليغتسل حديثا ثابتا ، ولو ثبت للزمنا استعماله ، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه : حديث أبي هريرة موقوف ، رفعه خطأ لا يرفعه الثقات . [ ص: 405 ] وقال أبو داود في "سننه " : هذا منسوخ ، وذكر ابن حبيب ، عن مالك أن حديث الغسل من غسل الميت ضعفه بعضهم . وقال ابن العربي : قالت جماعة أهل الحديث : هو حديث ضعيف .

                                                وروى الدارقطني في "سننه " : حديثا صحيحا ، عن ابن عمر : "فمنا من يغتسل ، ومنا من لم يغتسل " . وقال ابن التين حمله بعضهم على الاستحباب لا الوجوب ، وقال الخطابي : لا أعلم أحدا قال بوجوب الغسل منه وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه .




                                                الخدمات العلمية