الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2959 2960 2961 2962 2963 2964 2965 ص: فإن احتج محتج في إباحة الصدقة عليهم بصدقات رسول الله - عليه السلام - ، فذكر ما حدثنا فهد ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته : "أن فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام - أرسلت إلى أبي بكر - رضي الله عنه - تسأله ميراثها من رسول الله - عليه السلام - فيما أفاء الله على رسوله .

                                                وفاطمة حينئذ تطلب صدقة رسول الله بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر
                                                ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : إن رسول الله - عليه السلام - قال : إنا لا نورث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال وإني -والله- لا أغير شيئا من صدقة رسول الله - عليه السلام - عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله - عليه السلام - "ولأعملن في ذلك بما عمل فيها رسول الله - عليه السلام - "
                                                .

                                                حدثنا نصر بن مرزوق ، وابن أبي داود ، قالا : ثنا عبد الله بن صالح (ح).

                                                وحدثنا روح بن الفرج ، قال : ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قالا : ثنا الليث ، قال : ثنا عقيل عن ابن شهاب . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا حسين بن مهدي ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : ثنا معمر ، عن الزهري قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضري ، قال : "أرسل إلي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : إنه قد حضر المدينة أهل أبيات من قومك ، وقد أمرنا لهم برضخ ، فاقسمه فيهم ، فبينا أنا كذلك إذ جاءه يرفا ، فقال : هذا عثمان ، وعبد الرحمن ، وسعد ، والزبير ، -ولا أدري أذكر طلحة أم لا- يستأذنوني عليك ، فقال : [ ص: 491 ] ائذن لهم ، قال : ثم مكثنا ساعة ، فقال : هذا العباس وعلي يستأذنان عليك ، قال : ائذن لهما . فلما دخل العباس ، فقال : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الرجل -هما حينئذ فيما أفاء الله على رسوله - عليه السلام - من أموال بني النضير . - فقال القوم : : اقض بينهما يا أمير المؤمنين وأرح كل واحد منهما من صاحبه ، فقال عمر - رضي الله عنه - : أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض ، أتعلمون أن رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالوا : قد قال ذلك ، ثم قال لهما مثل ذلك ، فقالا : نعم ، قال : فإني سأخبركم عن هذا الفيء : إن الله -عز وجل- قد خص نبيه - عليه السلام - بشيء لم يعطه غيره ، فقال : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب فكانت هذه لرسول الله - عليه السلام - خاصة ، ثم والله ما اختارها دونكم ولا أستأثر بها عليكم ، ولقد قسمها بينكم وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان منه ينفق منه على أهله زرق سنة ، ثم يجمع ما بقي منه ، فجمع مال الله -عز وجل- ، فلما قبض رسول الله - عليه السلام - قال أبو بكر ( - رضي الله عنه - : أنا ولي رسول الله - عليه السلام - بعده ، أعمل فيها بما كان رسول الله - عليه السلام - يعمل . . . " ثم ذكر الحديث .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا إبراهيم بن بشار ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا عمرو بن دينار ، عن ابن شهاب فذكر مثله بإسناده ، وأثبت أن طلحة كان في القوم ولم يقل : "وبثها فيكم " .

                                                حدثنا يزيد بن سنان وأبو أمية ، قالا : ثنا بشر بن عمر ، قال : ثنا مالك بن أنس ، . . . فذكر بإسناده مثله . وقال : " فكان ينفق منها على أهله " .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا أحمد بن يونس ، قال : ثنا أبو شهاب ، عن سفيان وورقاء ، عن أبي الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - عليه السلام - : " لا يقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة " . [ ص: 492 ] قالوا : ففي حديث أبي هريرة هذا ما يدل على أنها كانت صدقات في عهد رسول الله - عليه السلام - ; لقوله : "بعد مؤنة عاملي " وعامله لا يكون إلا وهو حي ، قالوا : ففي هذه الآثار ما قد دل على أن الصدقة لبني هاشم حلال ; لأن رسول الله - عليه السلام - وأهله -وفيهم فاطمة بنته- قد كانوا يأكلون من هذه الصدقة في حياة رسول الله - عليه السلام - ، فدل ذلك على إباحة سائر الصدقات لهم ; فالحجة عليهم في ذلك أن تلك الصدقة كصدقات الأوقاف ، وقد رأينا ذلك يحل للأغنياء ، ألا ترى أن رجلا لو أوقف داره على رجل غني أن ذلك جائز ولا يمنعه ذلك غناه ؟ وحكم ذلك خلاف سائر الصدقات من الزكوات والكفارات وما يتقرب به إلى الله -عز وجل- ، فكذلك من كان من بني هاشم ذلك لهم حلال ، وحكمه خلاف سائر الصدقات التي ذكرنا .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : فإن احتج محتج من أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من إباحة الصدقة على بني هاشم بالأحاديث التي رويت عن عائشة وعمر بن الخطاب وأبي هريرة - رضي الله عنهم - ; لأن في هذه الأحاديث ما قد دل على أن الصدقة حلال لبني هاشم ، وذلك لأن رسول الله - عليه السلام - وأهله -وفيهم فاطمة الزهراء بنته- قد كانوا يأكلون من هذه الصدقة في حياة رسول الله - عليه السلام - ، وأجاب عن ذلك بقوله : "فالحجة عليهم في ذلك " أي : فالحجة على أهل المقالة الأولى في احتجاجهم : أن تلك الصدقة التي كانوا يأكلون منها لم تكن كسائر الصدقات من الزكوات والكفارات ونحوهما مما يتقرب به إلى الله -عز وجل- وإنما كانت تلك الصدقة كصدقة الأوقاف ، وصدقات الأوقاف تحل للأغنياء ; والدليل على ذلك أن رجلا إذا وقف داره أو بستانه على رجل غني فإن ذلك جائز ، ولا يمنع صحة الوقف غنى الموقوف عليه .

                                                هذا الذي ذكره الطحاوي .

                                                وذكر في "الاختيار " : ولا يجوز الوقف على الأغنياء وحدهم ; لأنه ليس بقربة ولا يستجلب الثواب ، فصار كالصدقة ، ولو وقف على الأغنياء وهم يحصون ثم [ ص: 493 ] من بعدهم على الفقراء جاز ، ويكون كما شرط ; لأنه قربة في الجملة بأن انقرض الأغنياء ، وفي "فتاوى الحسني " : ولو وقف أرضا على أهل بيت النبي - عليه السلام - ، قال بعضهم : لا يجوز ; لأنه لا تحل لهم الصدقة ، ويجب أن يجوز ; لأنه صدقة التطوع فتحل لهم كما تحل للغني .

                                                أما حديث عائشة - رضي الله عنها - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح :

                                                الأول : عن فهد بن سليمان ، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر أبي الوليد المصري أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان مولى الليث بن سعد من فوق ، ثقة ثبت ، روى له البخاري والترمذي والنسائي ، واستشهد به مسلم في حديث واحد .

                                                وهو يروي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير بن العوام ، عن عائشة - رضي الله عنها - .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا زهير بن حرب وحسن الحلواني ، قالا : ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، قال : ثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن عائشة زوج النبي - عليه السلام - أخبرته : "أن فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام - سألت أبا بكر - رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله - عليه السلام - أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله - عليه السلام - مما أفاء الله عليه . فقال لها أبو بكر : إن رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، قال : وعاشت بعد رسول الله - عليه السلام - ستة أشهر وكانت فاطمة - رضي الله عنها - تسأل أبا بكر - رضي الله عنه - نصيبها مما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر ذلك عليها ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله - عليه السلام - يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس - رضي الله عنهما - ، فغلبه عليها علي ، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر - رضي الله عنه - وقال : [ ص: 494 ] هما صدقة رسول الله - عليه السلام - ، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم " .

                                                الثاني : عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود ، كلاهما عن عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن عقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة ، عن عائشة .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني ، قال : ثنا الليث بن سعد ، عن عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة -زوج النبي - عليه السلام -- أنها أخبرته : "أن فاطمة بنت رسول الله - عليه السلام - أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله - عليه السلام - مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : إن رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال ، وإني -والله- لا أغير شيئا من صدقة رسول الله - عليه السلام - عن حاله التي كانت عليها في عهد رسول الله - عليه السلام - ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله - عليه السلام - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا " .

                                                الثالث : عن روح بن الفرج القطان المصري ، شيخ الطبراني ، عن يحيى بن عبد الله بن بكير ، عن الليث بن سعد . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : "أن فاطمة بنت النبي - عليه السلام - أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله - عليه السلام - مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر . فقال أبو بكر : إن رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ، إنما يأكل آل محمد - عليه السلام - في هذا المال ، وإني -والله- لا أغير شيئا من صدقة رسول الله - عليه السلام - عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله - عليه السلام - ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله [ ص: 495 ] - عليه السلام - ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر - رضي الله عنهما - في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي - عليه السلام - ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي - رضي الله عنه - ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها ، وكان لعلي - رضي الله عنه - من الناس وجه حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس ، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر : أن (تأتينا) ولا يأتنا أحد معك كراهية ، لمحضر عمر - رضي الله عنه - ، فقال عمر : لا والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال أبو بكر : وما عسيتهم أن يفعلوا بي ؟! والله لآتينهم ، فدخل عليهم أبو بكر - رضي الله عنه - فتشهد علي - رضي الله عنه - فقال : إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله تعالى ، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله - عليه السلام - نصيبنا ، حتى فاضت عينا أبي بكر - رضي الله عنه - ، فلما تكلم أبو بكر قال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله - عليه السلام - أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمرا رأيت رسول الله - عليه السلام - يصنعه فيها إلا صنعته .

                                                فقال علي لأبي بكر : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي - رضي الله عنه - وتخلفه عن البيعة ، وعذره بالذي اعتذره ، ثم استغفر وتشهد علي - رضي الله عنه - فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكارا للذي فضله الله به ، ولكنا كنا نرى لنا في هذا الأمر نصيبا ، فاستبد علينا ، فوجدنا في أنفسنا . فسر بذلك المسلمون وقالوا : أصبت . وكان المسلمون إلى علي - رضي الله عنه - قريبا حين راجع الأمر المعروف "
                                                ، انتهى .

                                                قوله : "فيما أفاء الله على رسوله " أي : ما أعطى الله رسوله من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد ، وهو من الفيء ، وهو الغنيمة . قال الجوهري : الفيء : الغنيمة . تقول منه : أفاء الله على المسلمين مال الكفار ، يفيء إفاءة . [ ص: 496 ] وقال ابن الأثير : أصل الفيء : الرجوع ، يقال : فاء يفيء فئة وفئوا ، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم ، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال : فيء ; لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق .

                                                قوله : "وفدك " بفتح الفاء والدال وفي آخره كاف . وهو اسم قرية بخيبر . وفي "المطالع " : فدك مدينة بينها وبين المدينة يومان ، وقيل : ثلاث مراحل .

                                                قوله : "إنا لا نورث " على صيغة المجهول .

                                                قوله : "أن أزيغ " من الزيغ وهو الضلال ، وأصله الميل ، ومنه : زاغت الشمس أي : مالت إلى الغروب .

                                                قوله : "فوجدت فاطمة على أبي بكر - رضي الله عنهما - " أي : غضبت عليه ، يقال : وجد عليه وجدا وموجدة إذا غضب عليه ، ووجدت عليه وجدا : حزنت ، ووجدت من الحب وجدا . كله بالفتح . ووجد من الغني جدة ووجدا -بالضم- ووجدا -بالكسر- لغة . ووجدت ما طلبت وجدانا ووجودا .

                                                قوله : "لم ننفس عليك خيرا " بفتح الفاء ، من نفست عليه بالشيء أنفس -من باب علم يعلم- نفاسة إذا لم أره أهلا ، والتنافس : التباغض والتحاسد .

                                                قوله : "استبددت " أي : استقللت .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول : فيه أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون ، ولهذا كان النبي - عليه السلام - يأخذ قوت عامه من المواضع التي حبسها في المدينة وفدك ومما بقي من خمس خيبر ثم يجعل ما فضل في الكراع والسلاح . ولا يقول بالميراث والتمليك أحد من أهل السنة إلا الروافض ، فإنهم يقولون بذلك ، وليس قولهم مما يشتغل به ولا يحكى مثله لما فيه من الطعن على السلف ، والمخالفة لسبيل المؤمنين . [ ص: 497 ] وقال أبو عمر : وأما علماء المسلمين فعلى قولين :

                                                أحدهما : وهو الأكثر وعليه الجمهور : أن النبي - عليه السلام - لا يورث ، وما ترك صدقة .

                                                والآخر : أن نبينا - عليه السلام - لم يورث ; لأنه خصه الله تعالى بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته كما خصه في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره . وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية ، وسائر علماء المسلمين على القول الأول .

                                                فإن قيل : كيف سكنت أزواج النبي - عليه السلام - بعد وفاته في مساكنهن اللاتي تركهن رسول الله - عليه السلام - فيهن إن كن لم يرثنه ، وكيف لم يخرجن عنها ؟

                                                قلت : لأن ذلك كان من مؤنتهن التي كان رسول الله - عليه السلام - استثناها لهن كما استثنى لهن نفقاتهن حين قال : "لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة " .

                                                والدليل على ذلك أن مساكنهم لم يرثها عنهن ورثتهن ، ولو كانت تلك ملكا لهن كان لا شك قد ورثها عنهن ورثتهن ، وترك ورثتهن ذلك دليل على أنها لم تكن ملكا لهن وإنما كان لهن سكنى حياتهن ، فلما توفين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه كما جعل كذلك في الذي فضل من نفقتهن في تركة رسول الله - عليه السلام - ، لما مضين لسبيلهن أضيف إلى أصل المال ، فصرف في مصالح المسلمين مما يعم جميعهم نفعه .

                                                فإن قيل : كيف تقول : الأنبياء لا يورثون ، وقد قال تعالى : وورث سليمان داود وقال أيضا مخبرا عن زكرياء : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ؟ [ ص: 498 ] قلت : سليمان - عليه السلام - لم يرث من داود - عليه السلام - مالا خلفه داود - عليه السلام - بعده ، وإنما ورث منه الحكمة والعلم ، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب هكذا .

                                                وقال أهل العلم بتأويل القرآن والسنة : فورث سليمان من داود الحكمة والنبوة وفضل القضاء ، وعلى هذا جماعة أهل العلم وسائر المسلمين إلا الروافض ، وكذلك قالوا في قوله : يرثني ويرث من آل يعقوب لا يختلفون في ذلك إلا ما روي عن الحسن أنه قال : يرثني مالا ويرث من آل يعقوب النبوة والحكمة .

                                                والدليل على صحة ما قال علماء المسلمين في تأويل هاتين الآيتين الكريمتين ما ثبت عن النبي - عليه السلام - أنه قال : "إنا معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة " .

                                                وكل قول يخالف قول رسول الله - عليه السلام - فهو مدفوع مهجور ، فتكون كل واحدة من الآيتين مخصوصة بهذا الحديث .

                                                الثاني : فيه دليل على صحة ما ذهب إليه الفقهاء من تجويز الأوقاف في الصدقات المحبسة ، وأن للرجل أن يحبس ماله ويوقفه على سبيل من سبل الخيرات يجري عليه نفعه من بعد وفاته .

                                                الثالث : فيه دليل على اتخاذ الأموال واكتساب الضياع وما يسعى الإنسان لنفسه وعماله وأهله ونوائبه وما يفضل عن الكفاية .

                                                الرابع : فيه رد على الصوفية ومن ذهب مذهبهم في قطع الاكتساب المباح.

                                                الخامس : فيه دليل على أن للقاضي أن يقضي بعلمه ; لما قضى أبو بكر - رضي الله عنه - في ذلك بما كان عنده من العلم .

                                                وذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمد وأجازا للقاضي أن يقضي بعلمه .

                                                السادس : فيه دليل على قبول خبر الواحد العدل ; لأنهم لم يردوا على أبي بكر قوله ، ولا رد أزواج النبي - عليه السلام - على عائشة قولها ذلك وحكايتها لهن . [ ص: 499 ] فإن قيل : لو سلمت فاطمة وعلي والعباس - رضي الله عنهم - ذلك لقول أبي بكر - رضي الله عنه - ما أتى علي والعباس في ذلك عمر بن الخطاب في خلافته يسألانه ذلك .

                                                قلت : تشاجر علي وعباس واختلافهما إلى عمر - رضي الله عنه - مشهور ، لكنهما لم يسألا ذلك ميراثا وإنما سألا ذلك من عمر - رضي الله عنه - ليكون بأيديهما منه ما كان رسول الله - عليه السلام - يعمل فيه في حياته .

                                                وأما حديث عمر - رضي الله عنه - فأخرجه أيضا من ثلاث طرق صحاح :

                                                الأول : عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن حسين بن مهدي بن مالك شيخ الترمذي وابن ماجه ، عن عبد الرزاق بن همام صاحب المصنف ، عن معمر بن راشد ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان النضري -بالنون والضاد المعجمة- المختلف في صحبته- قال : "أرسل إلي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - . . . " إلى آخره .

                                                وأخرجه مسلم : نا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد - قال ابن رافع : نا ، وقال الآخران : أنا- عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : "أرسل إلي عمر بن الخطاب فقال : إنه قد حضر أهل أبيات من قومك . . . " إلى آخره نحوه .

                                                وقال مسلم أيضا : حدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي ، قال : ثنا جويرية ، عن مالك ، عن الزهري ، أن مالك بن أوس حدثه قال : "أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار ، قال : فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله ، متكئا على وسادة من أدم ، فقال لي : يا مال ، إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فأقسمه بينهم . قال : قلت : لو أمرت بهذا غيري ؟ قال : خذه يا مال . قال : فجاء يرفا ، فقال : هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان [ ص: 500 ] وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ؟ فقال : نعم ، فأذن لهم فدخلوا ، ثم جاءه ، فقال : هل لك في عباس وعلي ؟ قال : نعم ، فأذن لهما ، فقال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب [الآثم] الغادر الخائن ، فقال القوم : أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وارحمهم ، فقال مالك بن أوس : فخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر - رضي الله عنه - ابتداء : أنشدكم بالله الذي [بإذنه] تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم . ثم أقبل على العباس وعلي فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أن رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ما تركنا صدقة ؟ قالا : نعم . قال : عمر : إن الله كان خص رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره ، قال : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول -ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا- . قال : فقسم رسول الله - عليه السلام - بينكم أموال بني النضير ، فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم حتى بقي هذا [المال] ، فكان رسول الله - عليه السلام - يأخذ منه نفقة سنته ثم يجعل ما بقي أسوة المال ، ثم قال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم . ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد القوم ، أتعلمان ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فلما توفي رسول الله - عليه السلام - قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله - عليه السلام - ، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ؟! قال أبو بكر - رضي الله عنه - : قال رسول الله - عليه السلام - : لا نورث ، ما تركنا صدقة فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا [والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله - عليه السلام - ، وولي أبو بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا] والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتها ، ثم جئتني أنت وهذا [ ص: 501 ] وأنتما جميع وأمركما واحد ، فقلتما ادفعها إلينا . فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله - عليه السلام - فأخذتماها بذلك . قال : أكذلك ؟ قالا : نعم . قال : ثم جئتماني لأقضي بينكما ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنها فرداها إلي " .

                                                الثاني : عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن إبراهيم بن بشار الرمادي شيخ أبي داود والبخاري في غير "الصحيح " ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن مسلم الزهري .

                                                وأخرجه مسلم : عن ابن أبي شيبة ، عن سفيان ، عن عمرو ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، فكانت للنبي - عليه السلام - خاصة ، فكان ينفق على أهله نفقة سنة ، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله " .

                                                الثالث : عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي ، عن أبي أمية محمد بن مسلم الطرسوسي ، كلاهما عن بشر بن عمر بن الحكم الزهراني البصري ، عن مالك بن أنس ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن مالك بن أوس .

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا الحسن بن [علي الخلال] ، قال : نا بشر بن عمر ، قال : ثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : "دخلت على عمر بن الخطاب ، ودخل عليه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ، ثم جاء علي والعباس يختصمان ، فقال عمر لهم : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن [ ص: 502 ] رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم قال عمر : فلما توفي رسول الله - عليه السلام - قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله - عليه السلام - ، فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر ، تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها . فقال أبو بكر : إن رسول الله - عليه السلام - قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة . والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحق . . . . " .

                                                وفي الحديث قصة طويلة ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث مالك بن أنس .

                                                وأخرجه أبو داود أيضا مطولا جدا : عن الحسن بن علي ومحمود بن يحيى بن فارس ، عن بشر بن عمر الزهراني ، قال : حدثني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس : "أرسل إلي عمر - رضي الله عنه - أن تعال النهار فجئته فوجدته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله . . . " الحديث نحو رواية مسلم التي ذكرناها .

                                                قوله : "برضخ " بالضاد والخاء المعجمتين ، وهو العطية القليلة ، قال الجوهري : رضخت له رضخا وهو العطاء ليس بالكثير .

                                                قوله : "يرفا " بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء ، وبالفاء المقصورة ، وهو اسم لمولى عمر بن الخطاب ، وكان حاجبا له .

                                                قوله : "أنشدكم الله " يقال : نشدتك الله ، وأنشدك الله وبالله ، وناشدتك الله وبالله أي : سألتك وأقسمت عليك ، ونشدته نشدة ونشدانا ومناشدة ، وتعديته إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت حيث قالوا : نشدتك الله وبالله ، كما قالوا : دعوت زيدا وبزيد وإما أنهم ضمنوه معنى ذكرت ، فأما أنشدتك بالله مخطأ .

                                                قوله : "فما أوجفتم عليه " من الإيجاف وهو سرعة السير ، وقد أوجف دابته يوجفها إيجافا إذا حثها ، والوجيف ضرب من السير سريع ، وقد وجف البعير يجف وجفا ووجيفا . [ ص: 503 ] فإذا قلت : هذا مما لم يوجف عليه أي : لم يؤخذ بغلبة جيش .

                                                قوله : "حين تعالى النهار " أي : ارتفع .

                                                قوله : "إلى رماله " رمال السرير ورمله : ضفر نسجه من وجهه ، وسرير مرمول ومرمل منسوج من السعف بالحبال ، يقال : رملته وأرملته .

                                                قوله : "يا مال " ترخيم مالك ، كما يقال : يا حار في حارث .

                                                قوله : "قد دف " بفتح الدال وتشديد الفاء من الدف وهو سير ليس بالشديد في جماعة ، ومنه : دفت دافة .

                                                وأما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح : عن فهد بن سليمان ، عن أحمد بن عبد الله بن يونس وقد ينسب إلى جده ، غالبا شيخ البخاري ومسلم وأبي داود .

                                                عن ابن شهاب الحناط الكوفي الأصغر - واسمه عبد ربه بن نافع الكناني ، روى له الجماعة سوى الترمذي .

                                                عن سفيان الثوري . وعن ورقاء بن عمر بن كليب اليشكري الكوفي -نزيل المدائن- روى له الجماعة .

                                                كلاهما عن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان المدني روى له الجماعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى له الجماعة ، عن أبي هريرة .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - عليه السلام - قال : "لا يقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة " .

                                                وحدثنا محمد بن أبي عمر المكي ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي الزناد . . . بهذا الإسناد نحوه . [ ص: 504 ] وأخرجه أبو داود : عن عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة نحوه .

                                                قوله : "لا يقتسم " بضم الميم أي : ليس يقتسم ورثتي دينارا ; لأنني لا أتخلف دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا . وفي رواية يحيى وابن كنانة : "دنانير " على الجمع ، وأما سائر الرواة عن مالك في "الموطأ " يقولون : "دينارا " .

                                                قال أبو عمر : هو الصواب ; لأن الواحد في هذا الموضع أعم عند أهل اللغة ; لأنه يقتضي الجنس والقليل والكثير .

                                                قوله : "ومؤنة عاملي " أراد بعامله : خادمه في حوائجه ، ووكيله وأجيره ونحو ذلك .



                                                الخدمات العلمية