الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3023 3024 3025 ص: وقد جاءت الآثار أيضا عن رسول الله - عليه السلام - بذلك متواترة : حدثنا الحسين بن نصر ، قال : ثنا الفريابي . (ح)

                                                وحدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا أبو عاصم ، قالا جميعا : عن سفيان ، عن حكيم ابن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي ، عن أبيه ، عن ابن مسعود

                                                [ ص: 44 ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شيئا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة . قيل : يا رسول الله وماذا غناه ؟ قال : خمسون درهما أو حسابها من الذهب " .

                                                حدثنا أحمد بن خالد البغدادي ، قال : ثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، قال : ثنا سفيان . . . فذكر بإسناده مثله غير أنه قال : "كدوحا في وجهه " ولم يشك وزاد : "فقيل لسفيان : لو كانت عن غير حكيم ! فقال : حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد مثله " .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : قد جاءت الأحاديث أيضا عن رسول الله - عليه السلام - بما ذكرنا ، أن الاعتبار في السؤال وحل الصدقة هو الفقر والحاجة لا غير .

                                                قوله : "متواترة " أي : متكاثرة وانتصابها على الحال من الآثار ، ولم يرد به التواتر المصطلح عليه .

                                                ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن مسعود من ثلاث طرق :

                                                الأول : عن الحسن بن نصر بن المعارك ، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري ، عن سفيان الثوري ، عن حكيم بن جبير الأسدي الكوفي ، ضعفه أحمد ، وعن يحيى : ليس بشيء . وقال إبراهيم السعدي : كذاب . وقال الدارقطني : متروك . وروى له الأربعة .

                                                عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي الكوفي وثقه يحيى وابن حبان وروى له الأربعة - عن أبيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي روى له الجماعة ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا الحسن بن علي ، نا يحيى بن آدم ، نا سفيان ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله قال : قال

                                                [ ص: 45 ] رسول الله عليه السلام : " من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش -أو كدوح أو خدوش - في وجهه فقيل يا رسول الله وما الغنى ؟ قال : خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " .

                                                الثاني : عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد ، عن سفيان ، عن حكيم بن جبير . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا قتيبة وعلي بن حجر -قال قتيبة : ثنا شريك ، وقال علي : أنا شريك والمعنى واحد - عن حكيم بن جبير . . . إلى آخره نحو رواية أبي داود .

                                                وقال الترمذي : حديث ابن مسعود حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث .

                                                الثالث : عن أحمد بن خالد البغدادي ، عن أبي هشام الرفاعي محمد بن يزيد شيخ مسلم ، عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي شيخ أحمد ، عن سفيان . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه ابن ماجه : ثنا الحسن بن علي الخلال ، نا يحيى بن آدم ، ثنا سفيان ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "من سأل وله ما يغنيه ، جاءت يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجهه . قيل : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " . فقال رجل لسفيان : إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير ، فقال سفيان : فقد حدثناه زبيد ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد .

                                                وقال أبو داود : قال يحيى : فقال عبد الله بن عثمان لسفيان : حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير .

                                                فقال سفيان : فقد حدثناه زبيد ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد .

                                                [ ص: 46 ] وقال الترمذي : ثنا محمود بن غيلان ، قال : ثنا يحيى بن آدم ، قال : ثنا سفيان ، عن حكيم بن جبير بهذا الحديث ، فقال له عبد الله بن عثمان صاحب شعبة : لو غير حكيم حدث بهذا [قال : وما لحكيم لا يحدث عن شعبة ؟ ! قال : نعم ، قال سفيان : سمعت زبيدا يحدث بهذا] عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد .

                                                وقال الخطابي : وضعفوا هذا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم .

                                                قالوا : أما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال : فقد حدثناه زبيد ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، حسب .

                                                وحكى الإمام أحمد عن يحيى بن آدم ، أن الثوري قال يوما : قال أبو بسطام يحدث -يعني شعبة - هذا الحديث عن حكيم بن جبير .

                                                قيل له : قال : حدثني زبيد ، عن محمد بن عبد الرحمن ولم يزد عليه . قال أحمد : كأنه أرسله أو كره أن يحدث به .

                                                قلت : حكى الترمذي أن سفيان صرح بإسناده فقال : سمعت زبيدا يحدث بهذا عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد . وقد ذكرنا آنفا .

                                                وحكاه ابن عدي أيضا ، وحكي أيضا أن الثوري قال : أخبرنا به زبيد . وهذا يدل على أن الثوري حدث به مرتين : مرة لا يصرح فيه بالإسناد ، ومرة يسنده .

                                                وقال النسائي : لا نعلم أحدا قال في هذا الحديث زبيد غير يحيى بن آدم ، ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جبير ، وحكيم بن جبير ضعيف ، وسئل شعبة عن حديث حكيم بن جبير فقال : أخاف النار . وقد كان روى عنه قديما . وسئل يحيى بن معين : يرويه أحد غير حكيم ؟ فقال يحيى : نعم ، يرويه يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن زبيد ولا أعلم أحدا يرويه إلا يحيى بن آدم وهذا وهم ، لو كان كذا لحدث الناس به جميعا عن سفيان ، ولكنه حديث منكر .

                                                هذا الكلام قاله يحيى أو نحوه .

                                                [ ص: 47 ] قلت : زبيد هذا -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- ابن الحارث الأيامي ، روى له الجماعة .

                                                قوله : "وله ما يغنيه " جملة وقعت حالا .

                                                قوله : "إلا جاءت " أي : مسألته .

                                                "شينا " . أي : عيبا ، يقال : شانه يشينه ، وتفسير الكدوح والخدوش قد مر .

                                                قوله : "قلت لسفيان " قد عرفت القائل هو عبد الله بن عثمان وهو غير مذكور في متن الحديث .

                                                ولما أخرج الترمذي هذا الحديث قال : والعمل على هذا عند بعض أصحابنا ، وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق . قالوا : إذا كان عند الرجل خمسون درهما لم تحل له الصدقة .

                                                قال : ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جبير ووسعوا في هذا ، وقالوا : إذا كان عنده خمسون درهما أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة ، وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم .

                                                وقال ابن قدامة : استدل الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق وأحمد بهذا الحديث : أن من ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب فإنه يحرم عليه السؤال ، ولا تحل له الصدقة .

                                                قلت : قال أصحابنا : الغنى الذي يحرم به أخذ الصدقة وقبولها هو الذي تجب به صدقة الفطر والأضحية ، وهو أن يملك من الأموال التي لا تجب فيها الزكاة ما يفضل عن حوائجه ، وتبلغ قيمة الفاضل مائتي درهم من الثياب والفرش والدور والحوانيت والدواب والخدم ، زيادة على ما يحتاج إليه كل ذلك للابتذال والاستعمال لا للنماء والإسامة ، فإذا فضل من ذلك ما تبلغ قيمته مائتي درهم وجب عليه صدقة الفطر والأضحية وحرم عليه أخذ الصدقة .

                                                [ ص: 48 ] ثم قدر الحاجة ما ذكره الكرخي في "مختصره " فقال : لا بأس أن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله ، وخادم ، وفرس ، وسلاح وثياب البدن ، وكتب العلم إن كان من أهله ، فإن كان له فضل عن ذلك تبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة ، لما روي عن الحسن البصري أنه قال : "كانوا يعطون من الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من السلاح والفرس والدار والخادم " .

                                                وقوله : "كانوا " كناية عن أصحاب رسول الله - عليه السلام - .

                                                وذكر في "الفتاوى " فيمن له حوانيت ودور الغلة لكن غلتها لا تكفيه لعياله ، أنه فقير ويحل له أخذ الصدقة عند محمد ، وعند أبي يوسف لا يحل ، وعلى هذا إذا كان له كرم ، لكن غلته لا تكفيه لعياله ، وإن كان عنده طعام للقوت يساوي مائتي درهم فإن كان كفاية شهر ، يحل له أخذ الصدقة ، وإن كان كفاية سنة قال بعضهم : لا يحل ، وقال بعضهم : يحل .

                                                ثم جواب أصحابنا عن الحديث المذكور : أنه محمول على حرمة السؤال ، معناه : لا يحل سؤال الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب ، أو يحمل ذلك على كراهة الأخذ ; لأن من له سداد من العيش فالتعفف أولى .




                                                الخدمات العلمية