الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                163 ص: واحتجوا في ذلك من الآثار، بما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي، قال: نا زائدة بن قدامة، قال: ثنا علقمة بن خالد -أو خالد بن علقمة - عن عبد خير ، قال: " دخل علي الرحبة ثم قال لغلامه: إيتني بطهور، فأتاه بماء وطست [فتوضأ] فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا، وقال: هكذا [كان] طهور رسول الله - عليه السلام -" .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه من غسل القدمين .

                                                وهذا الحديث أخرجه الطحاوي في أول باب الوضوء للصلاة مرة مرة، وثلاثا ثلاثا بهذا الإسناد بعينه، ولكن لفظه هناك: "عن علي أنه توضأ ثلاثا ثلاثا" .

                                                وأخرجه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد ، والدارقطني ، وقد ذكرناه .

                                                والرحبة هي رحبة الكوفة ذكرناها عن قريب. واعلم أنه قد تواترت الأخبار عن النبي - عليه السلام - بغسل الرجلين في الوضوء، فثبت به الحكم قطعا، وما يروى عن علي وابن عباس وابن عمر وغيرهم من المسح عليهما كما ذكرنا فهي أخبار آحاد لا يجب قبولها من وجهين:

                                                [ ص: 314 ] أحدهما: لما فيه من الاعتراض على موجب الآية من الغسل، على ما نبين ذلك إن شاء الله تعالى.

                                                والثاني: أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله; لعموم الحاجة إليه، وقد روي عن علي - رضي الله عنه - "أنه قرأ وأرجلكم بالنصب، وقال: المراد الغسل" فلو كان عنده عن النبي - عليه السلام - جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال: إن مراد الله الغسل، كذا قاله أبو بكر الجصاص .

                                                وقال البيهقي : وحديث عبد خير عن علي في المسح على ظهر القدمين إن صح فالمراد به ظهر الخفين، وقد روي عن علي من أوجه كثيرة أنه غسل رجليه في الوضوء.

                                                قلت: أما الجواب عن الأحاديث التي فيها مسح الرجلين، فقد أجاب أبو جعفر : عن الحديث الأول -أعني حديث النزال بن سبرة - أنه ليس فيه دليل على أن فرض الرجلين هو المسح; لأن فيه أنه قد مسح وجهه، وهو لا شك أنه غسل; لأن الوجه لا يمسح عليه بالإجماع، فكذلك المراد من قوله: "ومسح رجليه" معناه غسلهما.

                                                فإن قيل: هل أتى المسح بمعنى الغسل؟

                                                قلت: نعم، وقد قال أبو زيد الأنصاري : المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضائه: قد تمسح، ويقال: مسح الله ما بك، أي أذهب عنك وطهرك من الذنوب.

                                                وأما الجواب عن الحديث الثاني- وهو حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فهو أن يقال: إنه ضعيف، وقد قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل عنه فضعفه، ولئن سلمنا أنه صحيح، ولكنه قال: "ثم أخذ بيديه جميعا حفنة من ماء" والحفنة من الماء قد تصل إلى ظاهر القدم وباطنه وإن كان في النعل، ويدل على ذلك قوله: "ففتلها بها، [ ص: 315 ] ثم الأخرى مثل ذلك" والحفنة قد تكفي مع الرفق في مثل هذا، ولو كان أراد المسح على بعض القدم لكان يكفيه ما دون الحفنة.

                                                وأما الجواب عن الحديث الثالث -وهو حديث عطاء بن يسار ، عن ابن عباس - فهو أن المراد به غسل قدميه وهو منتعل، والدليل على ذلك أنه قال: "فأخذ ملء كفه ماء" ولو كان المراد أنه مسح لكان يكفي أقل من ذلك; لأن المسح هو الإصابة وليس الإسالة.

                                                وأما الجواب عن الحديث الرابع، وهو حديث السدي ، عن عبد خير ، عن علي - رضي الله عنه - فمراده باطن الخف الذي على القدم.

                                                قال البيهقي في "المعرفة": هذا حديث تفرد به عبد خير الهمداني ، عن علي - رضي الله عنه - وعبد خير لم يحتج به صاحب الصحيح، وقد اختلف عليه في متن هذا الحديث، فروي هكذا، وروي عنه أن ذلك كان على الخفين، أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، قال: نا أحمد بن عبيد الصفار قال: نا عباس بن الفضل الأسفاطي ، قال: نا أبو بكر بن أبي شيبة قال: نا حفص -هو ابن غياث - عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد خير ، عن علي - رضي الله عنه - قال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكني رأيت رسول الله - عليه السلام - يمسح على ظاهرهما" ويحتمل أن يكون المراد بالأول ما فسر في هذا، وروي من وجه آخر عن عبد خير أن المسح إنما كان في وضوء من لم يحدث.

                                                وأما الجواب عن الحديث الخامس -وهو حديث نافع عن ابن عمر - فالمراد أنه مسح على جوربيه المنعلين، أو كان هذا في وضوء متطوع به لا في وضوء واجب عليه من الحدث.

                                                وكذلك الجواب عن حديث علي - رضي الله عنه -: "أنه توضأ وضوءا خفيفا، ثم مسح على نعليه" أراد به على جوربيه المنعلين أو في وضوء متطوع به.

                                                [ ص: 316 ] وأما الجواب عن الحديث السادس -وهو حديث رفاعة بن رافع - فالمراد أنه مسح برأسه وخفيه على رجليه، وقد قال بعضهم في هذا الحديث: إن هذا وأمثاله من الآثار الدالة على مسح الرجلين في الوضوء من غير خف منسوخة بالأحاديث الواردة بغسلها، وقد قال الطحاوي : فذكر عبد الله بن عمرو أنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى أمرهم رسول الله - عليه السلام - بإسباغ الوضوء وخوفهم، فقال: "ويل للأعقاب من النار" فدل ذلك على أن حكم المسح الذي قد كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرنا من الأحاديث التي وردت بالغسل.

                                                وأما الجواب عن الحديث السابع -وهو حديث عباد بن تميم عن عمه- فالمراد أنه مسح على الخفين على القدمين، أو مسح على القدمين في وضوء متطوع به، كما ذكرناه.




                                                الخدمات العلمية