الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3293 3294 3295 3296 3297 3298 ص: حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : ثنا عبد الله بن عمر والليث بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله - عليه السلام - قال : " من أحب منكم أن يصوم يوم عاشوراء فليصمه ، ومن لم يحب فليدعه " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا الوهبي ، قال : ثنا ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في يوم عاشوراء : "إن هذا [يوم ] كانت قريش تصومه في الجاهلية ، فمن شاء أن يصومه فليصمه ، ومن شاء أن يتركه فليتركه " .

                                                حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا روح ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت غيلان بن جرير يحدث ، عن عبد الله بن معبد ، عن أبي قتادة قال : قلت : الأنصاري ؟ قال : الأنصاري ، عن النبي - عليه السلام -أنه قال في صوم يوم عاشوراء : " أني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا وهب بن جرير ، قال : ثنا أبي ، قال : سمعت غيلان . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                [ ص: 414 ] حدثنا أبو بكرة ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا مهدي بن ميمون وحماد بن زيد ، عن غيلان . . . فذكر بإسناده مثله .

                                                ففي هذا الحديث أنه أمرهم بصومه احتسابا لما ذكره فيه من الكفارة ، وليس هو بمخالف عندنا لحديث ابن عباس ; لأنه قد يجوز أن يكون يصومه شكرا لله لما أظهر موسى - عليه السلام - على فرعون ، فيشكر الله به ما شكره من ذلك ، فيكفر به عنه السنة الماضية .

                                                حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق ، قالا : ثنا روح ، قال : ثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، أنه سمع معاوية عام حج وهو على المنبر يقول : "يا أهل المدينة ، أين علماؤكم ؟ ! سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول في هذا اليوم : هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم ، فمن شاء فليصم ، ومن شاء فليفطر " .

                                                فقد يجوز أن يكون أراد بقوله : "ولم يكتب عليكم صيامه " أي صيام ذلك اليوم في ذلك العام ، وليس في هذا نفي أن يكون قد كان كتب ذلك عليهم فيما تقدم ذلك العام من الأعوام ثم نسخ بعد ذلك على ما تقدم من الأحاديث ، فقد ثبت نسخ صوم يوم عاشوراء الذي كان فرضا وأمر بذلك على الاختيار ، وأخبر بما في ذلك من الثواب ، فصومه حسن ، وهو اليوم التاسع قد قال ذلك ابن عباس في حديث الحكم بن الأعرج ، وذكر ذلك أيضا عن رسول الله - عليه السلام - .

                                                التالي السابق


                                                ش: أخرج أحاديث عبد الله بن عمر وأبي قتادة الأنصاري ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - إيذانا بأنه ليس بينها وبين الأحاديث المتقدمة عن ابن عباس وغيره منافاة ; لأن التخيير المذكور في حديث ابن عمر والكفارة المذكورة في حديث أبي قتادة لا ينافيان ما ذكر في حديث ابن عباس من أنه كان يصومه شكرا لله لإظهاره موسى - عليه السلام - على فرعون ، وكذا قوله في حديث معاوية : "لم يكتب عليكم صيامه " لا ينافي كونه قد كتب ذلك عليهم فيما تقدم ذلك العام من الأعوام ; لأن معنى

                                                [ ص: 415 ] كلامه : لم يكتب عليكم صيام ذلك اليوم من ذلك العام ، ويجوز أن يكون قد كان كتب عليهم فيما تقدم ثم نسخ بهذه الأحاديث ، وأمر بذلك بعد ذلك على الاستحباب والندب لما فيه من الثواب العظيم .

                                                أما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه من طريقين صحيحين :

                                                الأول : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني الثقة ، والليث بن سعد ، كلاهما عن نافع ، عن ابن عمر .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا قتيبة بن سعيد ، قال : ثنا الليث .

                                                وحدثنا ابن رمح ، قال : أنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أنه ذكر عند رسول الله - عليه السلام - يوم عاشوراء ، فقال رسول الله - عليه السلام - : كان يوم يصومه أهل الجاهلية ، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ، ومن كره فليدعه " ، وفي لفظ له : " فمن أحب أن يصومه فليصمه ومن أحب أن يتركه فليتركه ، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صيامه " .

                                                وأخرج البخاري : عن أبي عاصم ، عن عمر بن محمد ، عن سالم ، عن أبيه قال : قال النبي - عليه السلام - يوم عاشوراء : "من شاء صام " .

                                                الثاني : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير "الصحيح " ، عن محمد بن إسحاق المدني ، عن نافع ، عن ابن عمر .

                                                وأخرجه الدارمي في "سننه " : ثنا يعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "هذا يوم عاشوراء كانت قريش تصومه في

                                                [ ص: 416 ] الجاهلية ، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ، ومن أحب منكم أن يتركه فليتركه
                                                ، وكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صيامه " .

                                                وأما حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - فأخرجه من ثلاث طرق صحاح :

                                                الأول : عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن روح بن عبادة ، عن شعبة بن الحجاج ، عن غيلان بن جرير المعولي الأزدي البصري ، عن عبد الله بن معبد الزماني البصري ، عن أبي قتادة .

                                                وأخرجه مسلم مطولا : ثنا يحيى بن يحيى التميمي وقتيبة بن سعيد ، جميعا عن حماد -قال يحيى : أنا حماد بن زيد - عن غيلان ، عن عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة قال : "أتى رجل إلى النبي - عليه السلام - فقال : يا رسول الله كيف نصوم ؟ فغضب النبي - عليه السلام - من قوله ، فلما رأى عمر - رضي الله عنه - غضبه قال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - عليه السلام - نبيا ، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، فجعل عمر - رضي الله عنه - يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه ، فقال عمر : يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله ؟ قال : لا صام ولا أفطر -أو قال : لم يصم ولم يفطر- قال : كيف من يصوم يومين ويفطر يوما ؟ قال : ويطيق ذلك أحد ؟ قال : كيف من يصوم يوما ويفطر يوما ؟ قال : ذلك صوم داود - عليه السلام - ، قال : كيف من يصوم يوما ويفطر يومين ؟ قال : وددت أني طوقت ذلك ، ثم قال رسول الله - عليه السلام - : ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان ، فهذا صيام الدهر كله ، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " انتهى .

                                                وقد ذكر الطحاوي هذا الإسناد بعينه في الباب الذي قبله مقتصرا فيه على ذكر الصوم بعرفة .

                                                [ ص: 417 ] الثاني : عن إبراهيم بن مرزوق ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن أبيه ، عن غيلان .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده " .

                                                الثالث : عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن مهدي بن ميمون الأزدي البصري وحماد بن زيد ، كلاهما عن غيلان .

                                                وأخرجه أبو داود : نا سليمان بن حرب ومسدد ، قالا : نا حماد بن زيد ، عن غيلان بن جرير ، عن عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة : "أن رجلا أتى النبي - عليه السلام - فقال : يا رسول الله كيف تصوم ؟ . . . " إلى آخره ، نحو رواية مسلم .

                                                وأخرجه أيضا من طريق آخر قال : نا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا مهدي ، قال : ثنا غيلان . . . الحديث .

                                                وأما حديث معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - فأخرجه أيضا بإسناد صحيح : عن أبي بكرة . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك . . . إلى آخره نحوه .

                                                وأخرجه مالك في "موطإه " أيضا .

                                                وقال أبو عمر في "شرحه " : لم يختلف العلماء أن عاشوراء ليس بفرض صيامه ، ولا فرض إلا صوم رمضان ، وفيه دليل على فضل صوم يوم عاشوراء ; لأنه لم يخصه بقوله : "وأنا صائم " إلا لفضل فيه ، وفي رسول الله - عليه السلام - الأسوة الحسنة .

                                                [ ص: 418 ] قوله : "وهو اليوم التاسع " أي يوم عاشوراء هو اليوم التاسع ، قد قال ذلك عبد الله بن عباس فيما رواه الحكم بن الأعرج عنه حيث قال : قلت لابن عباس : "أخبرني عن يوم عاشوراء ، قال : عن أي حالة تسأل ؟ قلت : أسأل عن صيامه أي يوم أصوم ؟ قال : إذا أصبحت في تاسعه فأصبح صائما ، قلت : كذلك كان يصوم محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم " .

                                                وقد تقدم فيما مضى .

                                                قوله : "وذكر ذلك أيضا " أي : وذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ما قاله للحكم بن الأعرج عن النبي - عليه السلام - ، وهو قوله : "نعم " ، لما سأله الحكم : "كذلك كان يصوم محمد - عليه السلام - ؟ " .




                                                الخدمات العلمية