الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                179 180 ص: وقد روي عنه أيضا ما يدل على أن حكمهما حكم الغسل، فمما روي في ذلك: ما حدثنا يونس ، وابن أبي عقيل جميعا قالا: أخبرنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه". .

                                                [ ص: 325 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 325 ] ش: إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأبو صالح اسمه ذكوان الزيات

                                                وأخرجه مسلم : عن سويد بن سعيد ، عن مالك ... إلى آخره نحوه، وفي لفظه: "نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء" وهكذا بعد اليدين والرجلين، وفي آخره: "حتى يخرج نقيا من الذنوب" .

                                                وأخرجه الترمذي : عن إسحاق بن موسى ، عن معن بن عيسى القزاز ، عن مالك ... إلى آخره، نحو رواية مسلم ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

                                                قوله: "كل خطيئة" أي إثم، من خطئ في دينه خطئا -بكسر الخاء، وسكون الطاء- إذا أثم فيه، والخطئ: الذنب، وأخطأ يخطئ إذا سلك سبيل الخطأ عمدا أو سهوا، ويقال: خطئ بمعنى أخطأ أيضا، وقيل: خطئ إذا تعمد، وأخطأ إذا لم يتعمد، ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره أو فعل غير الصواب: أخطأ.

                                                قوله: "بطشتها" من البطش وهو السطوة، والأخذ بالعنف، وقد بطش به يبطش ويبطش بطشا، وباطشه مباطشة، وعين الفعل في المضارع مضموم ومكسور.

                                                قوله: "مستها" من المس، من مسست الشيء -بالكسر- أمسه مسا، فهذه اللغة الفصيحة، وحكى أبو عبيد مسست الشيء -بالفتح- أمسه مسا، فهذه بالضم، وربما قالوا: مست الشيء بحذف السين الأولى، وتحويل كسرها إلى الميم، ومنهم من لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة.

                                                ويستفاد منه أحكام:

                                                الأول: أن المراد من قوله: "كل خطيئة" الصغائر لا الكبائر، وإن كانت الخطيئة تتناول الكل، وذلك لأن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة أو رحمة الله تعالى ، وقال القاضي في قوله: "حتى يخرج نقيا من الذنوب": هذا يعم كل ذنب.

                                                قلت: نعم، ذلك بحسب الظاهر، ولكن المراد منه الصغائر كما ذكرنا، ولهذا [ ص: 326 ] لا يخرج من مظالم العباد إلا بإرضاء الخصوم فهذه أيضا ذنوب، وقد يقال: إن المراد من الذنوب: الذنوب التي يقترفها ما بين الوضوئين من الصغائر والكبائر ما خلا مظالم العباد، كما ورد في حديث: "الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما" .

                                                الثاني: أن قوله: "فإذا غسل رجليه" نص صريح أن وظيفة الرجلين الغسل ، ولهذا قال في رواية مسلم : "مع الماء أو مع آخر قطر الماء" وإنما ذكر ذلك عند غسل الوجه وغسل اليدين وغسل الرجلين، ولم يذكر شيئا في مسح الرأس; لأنه غير الغسل. فإن قلت: ما معنى خروج الخطيئة عند الغسل، والخروج ونحوه مما يضاف إلى الأجسام؟

                                                قلت: هذه استعارة; لأنه شبه الخطيئة بالوسخ والدرن الذي يتراكب على الجسم، ثم أثبت له على طريق الترشيح ما يلائمه، وهو الخروج الذي بمعنى الزوال، وجه التشبيه زوال الدرن من الجسم بالماء، والمعنى تزول الخطيئة عنه عند الغسل، بمعنى يغفر لها وتمحى، كما يزول الدرن حقيقة من الجسم عند مماسة الماء.

                                                الثالث: أن ظاهر الحديث يدل على أن تلك الفضيلة تحصل له وإن لم يصل بذلك الوضوء شيئا من الصلوات، وفيه دليل على أن الوضوء نفسه عبادة وقربة، وإن لم يصل به.

                                                والدليل عليه ما روى البخاري : بإسناده، عن أسامة بن زيد أنه قال: "دفع رسول الله - عليه السلام - من عرفة حتى نزل بالشعب، فبال ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء، فقلت: الصلاة يا رسول الله، قال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء إلى المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلى ولم يصل بينهما" .

                                                [ ص: 327 ] فهذا يدل على أن وضوءه - عليه السلام - أولا ما كان لأجل الصلاة، وإنما كان لتحصيل الطهر والتقرب، ولهذا كان - عليه السلام - يقدم الطهارة إذا أوى إلى فراشه؛ ليكون مبيته على طهر.




                                                الخدمات العلمية