الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3823 3824 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : ثنا وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي قزعة الباهلي ، عن المهاجر ، عن جابر بن [ ص: 351 ] عبد الله : " أنه سئل عن رفع الأيدي عند البيت ، ، فقال : ذلك شيء يفعله اليهود ، قد حججنا مع رسول الله - عليه السلام - فلم يفعل ذلك" . .

                                                فهذا جابر - رضي الله عنه - يخبر أن ذلك ليس من فعل أهل الإسلام ، وأنهم قد حجوا مع رسول الله - عليه السلام - فلم يفعل ذلك ، فإن كان هذا الباب يوجد من طريق معاني الآثار ، فإن جابرا قد أخبر أن ذلك من فعل اليهود ، فقد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - أمر به على الاقتداء منه بهم ، إذ كان حكمه أن يكون على شريعتهم لأنهم أهل كتاب حتى يحدث الله - عز وجل - له شريعة تنسخ شريعتهم ، ثم حج رسول الله - عليه السلام - فخالفهم فلم يرفع يديه ، إذ أمر بمخالفتهم .

                                                فحديث جابر أولى ؛ لأن فيه (تصحيح) النسخ لحديث ابن عباس 5 وابن عمر - رضي الله عنهم - .

                                                وإن كان يوجد من طريق النظر فإنا قد رأينا الرفع المذكور في هذا الحديث على ضربين ، فمنه رفع لتكبير الصلاة ، ومنه رفع للدعاء ، فأما ما للصلاة فرفع اليدين عند افتتاح الصلاة ، وأما ما للدعاء فرفع اليدين عند الصفا والمروة وبجمع ، وعرفة وعند الجمرتين ، فهذا متفق عليه ، وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضا [في] رفع اليدين بعرفة ، ما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن بشر بن حرب ، عن أبي سعيد الخدري : " أن رسول الله - عليه السلام - كان يدعو بعرفة ، وكان يرفع يديه نحو ثندوته" . .

                                                فأردنا أن ننظر في رفع اليدين عند رؤية البيت ، هل هو كذلك أم لا ؟ فرأينا الذين ذهبوا إلى ذلك ذهبوا أنه لا لعلة الإحرام ولكن لتعظيم البيت ، . وقد رأينا الرفع بعرفة والمزدلفة ، وعند الجمرتين وعلى الصفا والمروة ، إنما أمر بذلك من طريق الدعاء في الموطن الذي جعل ذلك الوقوف فيه لعلة الإحرام ، وقد رأينا من صار إلى عرفة ، أو [ ص: 352 ] مزدلفة ، أو موضع رمي الجمار أو الصفا والمروة ، وهو غير محرم أنه لا يرفع يديه لتعظيم شيء من ذلك ، فلما ثبت أن رفع اليدين لا يؤمر به في هذه المواطن إلا لعلة الإحرام ، ولا يؤمر به في غير الإحرام ؛ كان كذلك لا يؤمر برفع اليدين لرؤية البيت في غير الإحرام ، فإذا ثبت أنه لا يؤمر بذلك في غير الإحرام ؛ ثبت أن لا يؤمر به أيضا في الإحرام .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث جابر - رضي الله عنه - .

                                                أخرجه بإسناد صحيح ، عن ابن مرزوق ، عن وهب ، عن شعبة ، عن أبي قزعة سويد بن حجير بن بيان الباهلي روى له الجماعة سوى البخاري ، عن المهاجر بن عكرمة المكي ذكره ابن حبان في الثقات ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا يحيى بن معين ، أن محمد بن جعفر حدثهم ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت أبا قزعة يحدث ، عن المهاجر المكي ، قال : "سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت أو يرفع يديه ؟ قال : ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود ، وقد حججنا مع رسول الله - عليه السلام - فلم يكن يفعله" .

                                                وأخرجه الترمذي : نا يوسف بن عدي ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي قزعة الباهلي ، عن المهاجر المكي قال : "سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت ، أيرفع يديه ؟ قال : ما كنت أظن أحدا يفعل هذا إلا اليهود ؛ حججنا مع رسول الله - عليه السلام - فلم يفعله" .

                                                [ ص: 353 ] قوله : "فإن كان هذا الباب . . ." إلى آخره إشارة إلى بيان أن الأخذ والعمل بأحد الحديثين المتعارضين لا يخلو إما أن يكون من طريق إسناد أحدهما ، أو من طريق معاني الآثار ، أو من طريق النظر والقياس ، فإن كان الأول ، فالأخذ بحديث جابر أولى ؛ لأن إسناده أحسن من إسناد الحديث الأول ؛ لأن في إسناد الحديث الأول من يتكلم فيه على ما ذكرناه .

                                                فإن قيل : حديث جابر أيضا ضعيف ، وذكر الخطابي أن سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق ضعفوا حديث جابر هذا ؛ لأن مهاجرا راويه عندهم مجهول ، وقال البيهقي : حديث ابن عباس وابن عمر مع إرساله أشهر عند أهل العلم ، وله شواهد مرسلة ، والقول قول من رأى وأثبت .

                                                إن كان تضعيفهم إياه لأجل مهاجر المكي فقد قلنا : إن ابن حبان وثقه ، واحتج به أبو داود والترمذي والنسائي ، ولم يتعرض أحد منهم حين خرج هذا الحديث إلى تضعيفه بسبب مهاجر ، وسكوتهم عن ذلك دليل على رضاهم بالحديث لا سيما من عادة أبي داود أنه إذا سكت عن حديث خرجه يدل على صحته عنده وأدنى الأمر أنه يدل على حسنه ، وقول البيهقي : "مع إرساله أشهر" غير مسلم ؛ لأن المرسل لا يلحق الحديث المسند ، وقوله : "والقول قول من رأى وأثبت" غير مسلم أيضا ؛ فإن القول إنما يكون قول من رأى وأثبت إذا لم يكن ثمة ناسخ لذلك ، وها هنا النسخ موجود على ما نذكره الآن .

                                                [ ص: 354 ] وإن كان من طريق معاني الآثار فإن جابرا قد أخبر أن ذلك من فعل اليهود ، وهو يدل على النسخ ، وذلك أن النبي - عليه السلام - كان أمر به حين كان حكمه أن يكون على شريعتهم ؛ لأنهم أهل كتاب إلى أن يحدث الله - عز وجل - شريعة تنسخ شريعتهم ، ثم إنه - عليه السلام - لما حج خالفهم فلم يرفع يديه ، لأنه أمر بمخالفتهم في ذلك ، فحينئذ يكون حديث جابر أولى لما فيه تصحيح النسخ لحديث عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - .

                                                وإن كان يوجد من طريق النظر والقياس فإن الرفع المذكور في ذاك الحديث على ضربين :

                                                أحدهما : رفع لتكبير الصلاة عند الافتتاح .

                                                والآخر : رفع للدعاء عند الصفا والمروة وبجمع - وهو المزدلفة - وعرفة وعند الجمرتين ، ثم ينظر في رفع اليدين عند رؤية البيت هل هو كذلك أم لا ؟ فوجدنا القوم الذين استحبوا ذلك قد استحبوا لتعظيم البيت لا لأجل الإحرام ، ووجدنا الرفع في تلك المواضع إنما أمر به من طريق الدعاء لأجل وجود الإحرام ، حتى إنه لو كان غير محرم لا يرفع يديه لتعظيم شيء من ذلك ، ولما ثبت أن رفع اليدين لا يؤمر به في هذه المواضع إلا لأهل الإحرام ، ولا يؤمر به في غير الإحرام ، فالنظر على ذلك أن لا يؤمر به لرؤية البيت في غير الإحرام ، فإذا ثبت عدم الأمر في غير الإحرام ثبت عدمه أيضا في الإحرام .

                                                قوله : "وقد روي عن رسول الله - عليه السلام - أيضا في رفع اليدين بعرفة . . إلى آخره" . ذكره تأييدا لما قاله من أن استحباب رفع اليدين في المواطن المذكورة إنما هو لأجل الإحرام ، وأخرجه عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن بشر بن حرب الندبي الأزدي أبي عمرو البصري ، فيه مقال ، فعن أحمد : ليس هو قويا في الحديث ، وقال أبو زرعة : ضعيف ، وقال أبو حاتم : شيخ ضعيف . روى له الترمذي وابن ماجه ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .

                                                [ ص: 355 ] وأخرجه أحمد في "مسند" : ثنا روح ، قال : أنا حماد ، عن بشر بن حرب ، عن أبي سعيد الخدري قال : "كان رسول الله - عليه السلام - واقفا بعرفة يدعو هكذا ، ورفع يديه حيال ثندويه ، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض" .

                                                قوله : "ثندويه" الثندوة للرجل كالثدي للمرأة فمن ضم الثاء همز ، ومن فتحها لم يهمز ، قاله ابن الأثير : قال الجوهري : قال ثعلب : الثندوة بفتح أولها غير مهموزة مثال الترقوة ، على وزن فعلوة ، وهي مغرز الثدي ، فإذا ضممت همزت وهي فعللة .

                                                وقال أبو عبيدة : وكان رؤبة يهمز الثندوة وسية القوس والعرب لا تهمز واحدا منهما .

                                                وأستفيد منه سنية رفع اليدين حيال الثديين عند الدعاء يوم عرفة بعرفة .

                                                وروى البيهقي في "سننه" : من حديث عبد المجيد بن أبي رواد ، ثنا ابن جريج ، عن حسين بن عبد الله الهاشمي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : "رأيت رسول الله - عليه السلام - يدعو بعرفة يداه إلى صدره كاستطعام المسكين" .

                                                قال الذهبي : حسين ليس بمعتمد .




                                                الخدمات العلمية