الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3824 3826 3827 3828 3829 ص: وقد روي في ذلك عن إبراهيم النخعي ، حدثنا سليمان بن شعيب بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، عن طلحة بن مصرف ، عن إبراهيم النخعي قال : "ترفع الأيدي في سبع مواطن : في افتتاح الصلاة ، وفي التكبير للقنوت ، وفي الوتر ، وفي العيدين ، وعند استلام الحجر ، وعلى الصفا والمروة ، ، وبجمع ، وعرفات ، وعند المقامين عند الجمرتين" .

                                                قال أبو يوسف : فأما في افتتاح الصلاة وفي العيدين وفي الوتر وعند استلام الحجر فيجعل ظهر كفيه إلى وجهه ، وأما في الثلاث الأخر فيستقبل بباطن كفيه وجهه .

                                                فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة فقد اتفق المسلمون على ذلك جميعا .

                                                وأما التكبيرة في القنوت وفي الوتر فإنها تكبيرة زائدة في تلك الصلاة ، وقد أجمع الذين يقنتون قبل الركوع على الرفع معها ، فالنظر على ذلك أن تكون كذلك كل تكبيرة زائدة في كل صلاة ، فتكبير العيدين الزائد فيها على سائر الصلوات كذلك أيضا .

                                                وأما عند استلام الحجر فإن ذلك يجعل تكبيرا يفتتح به الطواف كما يفتتح بالتكبير للصلاة ، وأمر به رسول الله - عليه السلام - أيضا : حدثنا يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي يعفور العبدي ، قال : "سمعت أميرا كان على مكة ، منصرف الحاج سنة ثلاث وسبعين يقول : كان عمر - رضي الله عنه - رجلا قويا ، وكان يزاحم على الركن ، فقال له النبي - عليه السلام - : يا أبا حفص ، أنت رجل قوي وإنك تزاحم على الركن ، فتؤذي الضعيف ، فإذا رأيت خلوة فاستلمه ، وإلا فكبر وامض" . .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي يعفور ، عن رجل من خزاعة ، وكان الحجاج استعمله على مكة . . ، ثم ذكر مثله .

                                                [ ص: 357 ] فلما جعل ذلك التكبير يفتتح به الطواف كالتكبير الذي جعل يفتتح به الصلاة ؛ أمرنا بالرفع فيه كما نؤمر بالرفع في التكبير لافتتاح الصلاة ، ولا سيما إذ قد جعل النبي - عليه السلام - الطواف بالبيت صلاة :

                                                حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا أسيد (ح) .

                                                وثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : ثنا سعيد بن منصور ، قالا : ثنا الفضيل بن عياض ، عن عطاء بن السائب ، عن طاوس عن ابن عباس ، عن النبي - عليه السلام - قال : "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله - تعالى - قد أحل لكم المنطق ، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير" .

                                                فهذه العلة هي التي لها وجب الرفع فيما زاد على ما في الحديث الأول .

                                                وأما الرفع على الصفا والمروة ، وبجمع ، ، وعرفات وعند المقامين وعند الجمرتين ؛ فإن ذلك قد جاء منصوصا في الخبر الأول .

                                                وهذا الذي وصفنا من هذه المعاني التي ثبتناها قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد - رحمهم الله - .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي في رفع اليدين فيما ذكر من المواضع : عن إبراهيم النخعي ، ما حدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه شعيب بن سليمان بن سليم بن كيسان أحد أصحاب أبي يوسف ، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي ، عن الإمام أبي حنيفة الكوفي ، عن طلحة بن مصرف بن عمرو الكوفي روى له الجماعة ، عن إبراهيم .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا أبو خالد ، عن حجاج ، عن طلحة ، عن إبراهيم وخيثمة قالا : "ترفع الأيدي في الصلاة ، وعند البيت ، وعلى الصفا والمروة ، وبالمزدلفة" .

                                                [ ص: 358 ] قوله : "قال أبو يوسف . . . إلى آخره" ظاهر ، وهو من إملاء أبي يوسف ، نقله عنه أصحابه ، ونقل عنهم الطحاوي - رحمه الله - .

                                                قوله : "فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة . . . إلى آخره" من كلام الطحاوي .

                                                قوله : "فإن ذلك يجعل تكبيرا" أي فإن رفع اليدين عند استلام الحجر يجعل كالتكبير له لافتتاح الطواف ، كما تفتتح بالتكبير الصلاة ، فكما ترفع الأيدي في التكبير لافتتاح الصلاة ، فكذلك ترفع عند الاستلام لافتتاح الطواف ، ولا سيما وقد شبه النبي - عليه السلام - الطواف بالبيت بالصلاة ، حيث قال : "الطواف بالبيت صلاة" معناه : كالصلاة ؛ لأنه ليس بصلاة حقيقة ، إذ الصلاة عبارة عن الأقوال والأفعال المعهودة فإن قيل : إذا كان الطواف بالبيت صلاة ؛ ينبغي أن لا يجوز إلا بالطهارة كما ذهب إليه الشافعي .

                                                قلت : هذا تشبيه ، والتشبيه لا عموم له ، فالله - تعالى - أمر بالطواف مطلقا عن شرط الطهارة ، فلا يجوز تقييده بخبر الواحد ، فيحمل على التشبيه إما في الثواب ، أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة .

                                                أو نقول : الطواف يشبه الصلاة وليس بصلاة حقيقة ، فمن حيث إنه ليس بصلاة حقيقة لا يفترض له الطهارة ، ومن حيث إنه يشبه الصلاة تجب له الطهارة ؛ عملا بالدليلين بالقدر الممكن .

                                                قوله : "وأمر به رسول الله - عليه السلام - " أي أمر بالتكبير عند استلام الحجر لافتتاح الطواف ، فلما أمر به لذلك ؛ أمرنا برفع اليدين فيه كما أمرنا به في التكبير لافتتاح الصلاة ، ثم بين ذلك بقوله : "حدثنا يونس . . إلى آخره" .

                                                [ ص: 359 ] وأخرجه من طريقين :

                                                الأول : عن يونس بن عبد الأعلى المصري ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي يعفور العبدي واسمه : واقد ولقبه وقدان ، روى له الجماعة ، عن رجل من خزاعة - وكان الحجاج بن يوسف الثقفي استعمله على مكة - قال سفيان بن عيينة : هو عبد الرحمن بن الحارث ، وكان استعمال الحجاج إياه على مكة سنة ثلاث وسبعين ، وهي السنة التي قتل فيها عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - .

                                                الثاني : عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري ، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري ، عن أبي يعفور . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه" : من حديث أبي عوانة ، عن أبي يعفور ، عن شيخ من خزاعة استخلفه الحجاج على مكة قال : "إن عمر كان رجلا شديدا ، وكان يزاحم عند الركن ، فقال له رسول الله - عليه السلام - : يا عمر ، لا تزاحم عند الركن ؛ فإنك تؤذي الضعيف ، فإن رأيت خلوة فاستلمه ، وإلا فاستقبله وكبر وامض" ثم قال : ورواه ابن عيينة ، عن أبي يعفور ، عن الخزاعي ، ثم قال ابن عيينة : هو عبد الرحمن بن الحارث .

                                                قوله : "ولا سيما إذ قد جعل النبي - عليه السلام - . . . إلى آخره" "لا سيما" بمعنى خصوصا ، و "إذ" للتعليل ، وأراد بهذا تأكيد ما قاله من أن التكبير عند استلام الحجر لافتتاح الطواف كما أن التكبير في أول الصلاة لافتتاح الصلاة ، وكما أنه ترفع اليدان في التكبير لافتتاح الصلاة ، فكذلك ترفعان في التكبير لافتتاح الطواف ، خصوصا الطواف بالبيت صلاة ، لقوله - عليه السلام - : "الطواف بالبيت صلاة" .

                                                وأخرجه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريقين صحيحين :

                                                الأول : عن ربيع بن سليمان المؤذن ، عن أسد بن موسى ، عن الفضيل بن عياض الزاهد المشهور ، عن عطاء بن السائب بن مالك الكوفي ، عن طاوس اليماني ، عن ابن عباس .

                                                [ ص: 360 ] وأخرجه الدارمي في "سننه" : ثنا الحميدي ، نا فضيل بن عياض ، عن عطاء بن السائب ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "الطواف بالبيت صلاة ، إلا أن الله أحل فيه المنطق ، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير" .

                                                الثاني : عن صالح بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن منصور الخراساني ، عن الفضيل ابن عياض ، عن عطاء بن السائب . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه" من حديث ابن عيينة وفضيل وموسى بن أعين وجرير ، عن عطاء بن السائب ، عن طاوس ، عن ابن عباس رفعه : "الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير" ، وفي لفظ موسى : "الطواف بالبيت صلاة ، ولكن الله أحل لكم المنطق" . ووقفه ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة ، وهو أصح .

                                                وأخرجه النسائي أيضا : أنا يوسف بن سعد ، قال : نا حجاج ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن رجل أدرك النبي - عليه السلام - قال : "الطواف بالبيت صلاة ، فأقلوا من الكلام" انتهى .

                                                وقد ذكرنا معنى قوله - عليه السلام - : "الطواف بالبيت صلاة" .

                                                قوله : "فهذه العلة هي التي لها وجب الرفع" أي وجب رفع اليدين عند استلام الحجر لأجل هذه العلة ، وهي كون الطواف بالبيت صلاة ، زيادة على ما في الحديث الأول وهو المذكور في أول الباب ؛ لأنه ليس فيه ذكر رفع اليدين عند استلام الحجر ، وإنما فيه رفعهما عند رؤية البيت .

                                                قوله : "وأما الرفع على الصفا . . . إلى آخره" عطف على قوله : "فأما ما ذكرنا في افتتاح الصلاة" .




                                                الخدمات العلمية