الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                201 [ ص: 348 ] ص: وقد اختلف الناس في قوله عز وجل: وأرجلكم فأضافه قوم إلى قوله: برءوسكم وأرجلكم قصرا على معنى: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم وأضافه قوم إلى قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فقرءوا وأرجلكم نسقا على قوله: فاغسلوا وجوهكم، واغسلوا أيديكم، واغسلوا أرجلكم على الإضمار والنسق.

                                                التالي السابق


                                                ش: لما ذكر حجج الفريقين من الآثار والأخبار، شرع بذكر استدلالهم بالقرائتين المختلفتين في آية الوضوء، فالفريق الأول -أعني الذين ذهبوا إلى مسح الرجلين- أخذوا بقراءة الجر في قوله: (وأرجلكم) وجعلوها عطفا على قوله: وامسحوا برءوسكم وهو معنى قوله: "فأضافه قوم إلى قوله: وامسحوا ... " إلى آخره فيكون المأمور في الوضوء أربعة أشياء:

                                                غسلان: غسل اليدين والوجه، ومسحان: مسح الرأس والرجلين. فقرأ بالجر ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وحمزة ، وابن كثير . وقال الحافظ أبو بكر بن العربي وقرأ أنس ، وعلقمة ، وأبو جعفر أيضا بالخفض. وقال موسى بن أنس لأنس يا أبا حمزة ، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطهور فقال: اغسلوا حتى ذكر الرجلين، وغسلهما، وغسل العراقيب، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله سبحانه: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما، وقال: نزل القرآن بالمسح وجاءت السنه بالغسل .

                                                وعن ابن عباس وقتادة : "افترض الله -سبحانه- مسحين وغسلين" وبه قال عكرمة ، والشعبي ، واختار الطبري التمييز بينهما، وجعل القراءتين كالروايتين في الخبر، يعمل بهما إذا لم يتناقضا. انتهى.

                                                والفريق الثاني -أعني الذين ذهبوا إلى غسل الرجلين - أخذوا بقراءة النصب، وهو معنى قوله: "وأضافه قوم إلى قوله: فاغسلوا وجوهكم وأراد بالإضافة [ ص: 349 ] في الموضعين: العطف; لأن معنى العطف: الميل لغة، وفيه معنى الضم; لأن العاطف يضم شفقته إلى من يعطف عليه، ويجعلون المعنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم واغسلوا أرجلكم، على الإضمار والنسق، أما الإضمار فهو تقدير اغسلوا، وأما النسق فهو العطف على اغسلوا وجوهكم. وممن قرأ بالنصب: علي ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس -في رواية- وإبراهيم ، والضحاك ، ونافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وعلي بن حمزة . وقال الأزهري : وهي قراءة ابن عباس ، والأعمش ، وحفص عن أبي بكر ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، رحمهم الله.

                                                وقال الحافظ أبو بكر بن العربي ثبتت القراءة بثلاث روايات:

                                                الرفع، قرأ به نافع ، ورواه عنه الوليد بن مسلم ، وهي قراءة الأعمش .

                                                والنصب والجر ذكرناهما، وقال الإمام أبو بكر الرازي -رحمه الله-: وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعا ونقلهما الأئمة تلقيا من رسول الله - عليه السلام - ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفهما على الرأس، ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها (على) المغسول من الأعضاء، وذلك لأن قوله: وأرجلكم بالنصب يجوز أن يكون مراده واغسلوا أرجلكم، ويجوز أن يكون معطوفا على الرأس، فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون عطفا على المعنى لا على اللفظ; لأن الممسوح مفعول به، كقول الشاعر:


                                                معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا



                                                فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى، وتحتمل قراءة الخفض أن يكون معطوفا على الرأس، فيراد به المسح، ويحتمل عطفه على الغسل، ويكون [ ص: 350 ] مخفوضا بالمجاورة، كقوله: تعالى: يطوف عليهم ولدان مخلدون ثم قال: وحور عين فخفضهن بالمجاورة، وهن معطوفات في المعنى على الولدان; لأنهن يطفن ولا يطاف بهن، وكما قال الشاعر:


                                                فهل أنت إن ماتت أتانك راكب إلى دار بسطام بن قيس فخاطب



                                                فخفض "خاطب" بالمجاورة، وهو معطوف على المرفوع من قول "راكب" والقوافي مجرورة، ألا ترى إلى قوله:


                                                فهل مثلها في مثل حي وكلهم على دار مي بين ليلى وغالب



                                                فثبت بما وصفنا احتمال كل واحدة من القراءتين المسح والغسل، فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة، إما أن يقال: إن المراد هما جميعا مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما، أو يكون أحدهما على التخيير، يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض، أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير، وغير جائز أن يكون هما جميعا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه، ولا جائز أيضا أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير; إذ ليس في الآية ذكر التخيير، ولا دلالة عليه، ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع; فبطل التخيير بما وصفنا، وإذا انتفى التخيير والجمع ولم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير، فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما، فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد، وأنه غير ملوم على ترك المسح، فثبت أن المراد الغسل، وأيضا فإن اللفظ للاحتمال الذي ذكرنا مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان، فمهما ورد فيه من البيان عن الرسول - عليه السلام - من فعل أو قول، علمنا أنه مراد الله، وقد ورد البيان عنه - عليه السلام - بالغسل قولا [ ص: 351 ] وفعلا. أما الأول فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أنه - عليه السلام - غسل رجليه في الوضوء، ولم تختلف الأمة فيه، فصار ذلك واردا مورد البيان، فإذا ورد فعله على وجه البيان فهو على الوجوب، فثبت أن ذلك مراد الله بالآية.

                                                وأما الثاني فما روى جابر وأبو هريرة ، وعائشة ، وعبيد الله بن عمر وغيرهم: "أن النبي - عليه السلام - رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء، فقال: ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء" وتوضأ النبي - عليه السلام - مرة فغسل رجليه وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وأيضا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبي - عليه السلام - من بيانه؛ إذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل، فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله، فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد.

                                                وأيضا فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح؛ لاحتمالهما للمعنيين، فإذا وردت آيتان إحداهما توجب الغسل، والأخرى توجب المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح; لأن في الغسل زيادة فعل وقد اقتضاه الأجر بالغسل، فكان يكون حينئذ يجب استعمالها على أعمهما حكما، وأكثرهما فائدة وهو الغسل; لأنه يأتي على المسح، والمسح لا يتضمن الغسل، وأيضا لما حدد الرجلين بقوله: وأرجلكم إلى الكعبين كما قال: وأيديكم إلى المرافق دل على استيعاب الجميع كما دل ذكر الأيدي إلى المرافق على استيعابهما بالغسل، وذكر صاحب "البدائع" ما ملخصه: أن من قال بالمسح أخذ بقراءة الخفض، ومن قال بالتخيير يقول: إن القراءتين ثابتتان، وقد تعذر الجمع بينهما بأن يجمع الغسل والمسح؛ إذ لا قائل به من السلف فيتخير، وأيهما فعل يكون آتيا بالمفروض، ومن قال بالجمع يقول: القراءتان في آية واحدة كالآيتين، فيجب العمل بهما جميعا ما أمكن، وهنا أمكن لعدم التنافي بين الغسل والمسح في محل واحد، فيجب الجمع، ولنا قراءة النصب وأنها ترجح; لأنها محكمة في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على المغسول، وقراءة [ ص: 352 ] الخفض محتملة; لأنه يحتمل عطفها على الرؤوس حقيقة ومحلها الخفض، وعلى الوجه واليدين حقيقة ومحلها النصب إلا أنها خفضت للمجاورة كما في: "جحر ضب خرب" والخرب نعت للجحر لا للضب، فكانت قراءة النصب أرجح، إلا أن فيه إشكالا وهو أن الكلام في حد التعارض; لأن قراءة النصب محتملة أيضا في الدلالة على كون الأرجل معطوفة على اليدين والوجه; لأنه يحتمل أنها معطوفة على الرأس، والمراد بها المسح حقيقة، لكنها نصبت على المعنى لا على اللفظ; لأن الممسوح به مفعول به فصار كأنه: فامسحوا رؤوسكم، والإعراب قد يتبع اللفظ وقد يتبع المعنى، فحينئذ يطلب الترجيح من وجه آخر، وذلك من وجوه:

                                                أحدها: أن الله مد الحكم في الأرجل إلى الكعبين، ووجوب المسح لا يمتد إليهما.

                                                الثاني: أن الغسل يتضمن المسح.

                                                والثالث: أنه روي عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله - عليه السلام - أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" والوعيد لا يستحق إلا بترك الواجب، والحكم في تعارض القراءتين كالحكم في تعارض الآيتين، فإن أمكن العمل بهما مطلقا يعمل، وإلا يعمل بالقدر الممكن، وها هنا لا يمكن الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة; لأنه لم يقل به أحد، ولأنه يؤدي إلى تكرار المسح; لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار فيحمل في حالتين، فتحمل قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتان، وقراءة الخفض على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين; توفيقا بين القراءتين، وعملا بهما بالقدر الممكن. انتهى.

                                                فإن قيل: لا يستقيم الحمل على هذا الوجه; لأن قراءة الجر تقتضي المسح على الرجل دون الخف.

                                                قلت: لما أقيم الخف مقامه كان المسح على الخف كالمسح عليه، وإنما أضيف المسح إلى الرجل دون الخف؛ لئلا يوهم جواز المسح على الخف بدون اللبس، وهذا على اختيار بعض المشايخ الذين أثبتوا جواز المسح على الخف بالكتاب، ولكن الجمهور منهم أثبتوه بالسنة المشهورة دون الكتاب وقالوا: لو كان ثابتا [ ص: 353 ] بالكتاب لكان مغيا إلى الكعبين كالغسل، وليس كذلك، وأجابوا عن قراءة الجر بأن الأرجل في محل النصب أيضا بالعطف على الوجه فيكون مغسولا، فلا تعارض، وإنما صار مجرورا للمجاورة. وقيل: المراد بالمسح في حق الرجل الغسل، ولكن أطلق عليه لفظ المسح للمشاكلة، كقوله تعالى: وجزاء سيئة سيئة مثلها وقيل: إنما ذكر بلفظ المسح; لأن الأرجل من بين سائر الأعضاء مظنة إسراف الماء بالصب، فعطف على الممسوح، وإن كانت مغسولة على وجوب الاقتصاد في الصب لا لتمسح، وجيء بالغاية فقيل: "إلى الكعبين" إماطة لظن ظان يحسبها أنها ممسوحة; إذ المسح لم تصرف له غاية، وإليه أشار العلامة الزمخشري في "الكشاف" واعترض عليه بأنا لا نسلم أن العطف لا لتمسح; لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وقوله: إماطة لظن ... إلى آخره، غير مسلم أيضا لأن الحكم الشرعي لا يعلم كيفيته وكميته إلا بالشرع، فننتهي إلى ما أنهانا الشارع إليه، وما قاله تعليل في معارضة النص، وهو فاسد، وأيضا لو كان لتعليله أثر لم يقرأ بالنصب، وقد ظهر فساد علته لتخلف المعلول عن العلة، على تقدير قراءة النصب، وها هنا سؤال، وهو أن يقال: المسح في المعطوف عليه للإصابة حقيقة، وفي المعطوف إذا جعل للغسل مجاز، فيكون جمعا بين الحقيقة والمجاز.

                                                وأجيب بأن المسح الذي يعبر به عن الغسل هو لفظ المسح المقدر الذي تدل عليه الواو التي في قوله: وأرجلكم فحينئذ لا يلزم ذلك في لفظ واحد.




                                                الخدمات العلمية