الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3929 [ ص: 481 ] ص: وقد رواه عروة عن عائشة أبين من ذلك :

                                                حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا أسد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : " خرجنا موافين للهلال ، فقال رسول الله - عليه السلام - : من شاء أن يهل بالحج فليهل ، ومن شاء أن يهل بالعمرة فليهل ، فأما أنا فإني أهل بالحج ؛ لأن معي الهدي ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ، وأما أنا فإني أهللت بالعمرة ، فوافاني يوم عرفة وأنا حائض ، فقال رسول الله - عليه السلام - : دعي عنك عمرتك وانقضي شعرك وامتشطي ، ثم لبي بالحج ، فلبيت بالحج ، فلما كانت ليلة الحصبة وطهرت أمر رسول الله - عليه السلام - عبد الرحمن بن أبي بكر ، فذهب بي إلى التنعيم ، فلبيت بالعمرة قضاء لعمرتها" . .

                                                فبينت عائشة - رضي الله عنها - أن حجتها كانت مفصولة من عمرتها ، وأنها قد كانت فيما بينهما نقضت شعرها وامتشطت ، فكيف يجوز أن يكون طوافها لحجتها التي بينها وبين عمرتها ما ذكرنا من الإحلال يجزئ عنها لعمرتها وحجتها ؟ ! هذا محال ، وهو أولى من حديث أبي الزبير ، عن جابر ؛ لأن ذلك إنما أخبر فيه جابر بقصة عائشة ، وأنها لم تكن حلت بين عمرتها وحجتها ، وأخبرت عائشة في هذا بأمر النبي - عليه السلام - إياها قبل دخولها في حجتها أن تدع عمرتها ، وأن تفعل مما يفعل الحلال مما ذكرت في حديثها .

                                                ودل ذلك أيضا على أن حديث عطاء عن عائشة كما رواه عنه الحجاج ، وعبد الملك ، لا كما رواه عنه ابن أبي نجيح .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روى الحديث المذكور عروة بن الزبير عن عائشة أبين وأظهر مما رواه القاسم بن محمد وغيره .

                                                وأخرجه بإسناد صحيح ، وأخرجه الجماعة غير الترمذي .

                                                [ ص: 482 ] وأخرجه مسلم : عن أبي بكر بن أبي شيبة ، قال : ثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، قالت : فقال رسول الله - عليه السلام - : من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل ، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة ، قالت : فكان من القوم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بحج ، قالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة ، فخرجنا حتى قدمنا مكة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي - عليه السلام - ، فقال : دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ، قالت : ففعلت ، فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا ؛ أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأردفني وخرج بي إلى التنعيم ، فأهللت بعمرة ، فقضى الله حجنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم" .

                                                قوله : "فبينت عائشة . . " إلى آخره . أشار به إلى أن طواف عائشة لحجتها لم يكن لأجل حجتها وعمرتها كما قاله الخصم . واستدل به على أن القارن يطوف طوافا واحدا ؛ لأنها بينت في هذا الحديث أن حجتها كانت مفصولة من عمرتها ؛ لأنها عملت بينهما من الأمور التي تفعل للإحلال ، كنقض الشعر والامتشاط ، فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يكون طوافها لأجل حجتها التي هي فيها مجزئة عنها ، وعن عمرتها ؟ ! وهذا مستبعد محال .

                                                قوله : "وهو أولى من حديث أبي الزبير عن جابر " . أي : وهذا الحديث الذي رواه عروة من حديث أبي الزبير محمد بن مسلم المكي ، عن جابر ، في بيان الحكم وظهور الحال ، وذلك أن حديث جابر يخبر بقضية عائشة وأنها لم تكن حلت بين عمرتها وحجتها .

                                                وحديث عروة عنها يخبر بأنه - عليه السلام - أمرها قبل دخولها في حجتها أن تدع عمرتها وأن تفعل ما يفعله الحلال مما ذكرت في حديثها .

                                                [ ص: 483 ] قوله : "ودل ذلك أيضا" . أي دل حديث عروة عن عائشة هذا ، على أن حديث عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة كما رواه عن الحجاج بن أرطأة وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، لا كما رواه عبد الله بن أبي نجيح من قوله : "طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" فإن هذا على هذا الوجه غير صحيح كما ذكرناه فيما مضى .

                                                ثم نتكلم في معاني الحديث :

                                                فقوله : "وأما أنا فإني أهللت بالعمرة" دليل واضح على أنها لم تكن قارنة ، فإذا لم تكن قارنة لا يصح الاستدلال بأحاديثها في كون الطواف على القارن واحدا لا غير .

                                                قوله : "فوافاني يوم عرفة" . من الموافاة وهي المقاربة .

                                                قوله : "دعي عنك عمرتك" . أي : ارفضي ، قال القاضي : قيل : ليس المراد ها هنا بترك العمرة : إسقاطها جملة ، وإنما المراد : ترك فعلها مفردة وإرداف الحج عليها حتى تصير قارنة ، ويؤيد هذا أن في بعض طرقه : "وأمسكي عن العمرة" .

                                                قلت : المراد تركها بالكلية ، والدليل عليه ما جاء في رواية أخرى : "هذه قضاء من عمرتك" .

                                                قوله : "وانقضي شعرك وامتشطي" . تأوله بعضهم أنها تحمل على أنها كانت مضطرة لذلك لأذى برأسها ، فأباح لها ذلك كما أباح لكعب بن عجرة الحلاق لأذى برأسه .

                                                وقد قيل : إنها أعادت الشكوى بعد جمرة العقبة فأباح لها الامتشاط حينئذ .

                                                قلت : كلا التأويلين بعيد من ظاهر لفظ الخبر .

                                                وذكر الخطابي فيه تأويلا آخر : وهو أنه كان من مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة كان له أن يستبيح ما يستبيحه المحرم إذا رمى جمرة العقبة .




                                                الخدمات العلمية