الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4140 ص: وكان من حجة الذين ذهبوا إلى أنه يحل منها بالهدي ما روينا عن رسول الله -عليه السلام- في أول هذا الباب لما أحصر زمن الحديبية حصرته كفار قريش فنحر الهدي وحل ولم ينتظر أن يذهب عنه الإحصار إذ كان لا وقت لها كوقت الحج، ، ثم جعلوا العدو في الإحصار بها كالعدو في الإحصار بالحج، فثبت بذلك أن حكمها في الإحصار فيهما سواء، وأنه يبعث بالهدي حتى يحل به مما أحصر به منهما، إلا أن عليه في العمرة قضاء عمرة مكان عمرته، وعليه في الحجة حجة مكان حجته وعمرة لإحلاله، وقد روينا في هذه العمرة أنه قد يكون المحرم محصرا بها ما قد تقدم في هذا الباب عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من دليل أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أن المحرم بعمرة إذا أحصر يحل منها بالهدي ما روينا عن رسول الله -عليه السلام-، وهو ما رواه المسور بن مخرمة: "أن رسول الله نحر يوم الحديبية قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك". وقد تقدم ذكره في أول الباب، وقال الجصاص: وقد تواترت الأخبار بأن النبي -عليه السلام- كان محرما بالعمرة عام الحديبية، وأنه أحل من عمرته بغير طواف، ثم قضاها في العام القابل في ذي القعدة وسميت عمرة القضاء، وقال الله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله ثم قال: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وذلك حكم عائد إليهما

                                                [ ص: 226 ] جميعا، وغير جائز الاقتصار على أحدهما دون الآخر؛ لما فيه من تخصيص حكم اللفظ بغير دلالة.

                                                قوله: "إذ كان لا وقت لها يحله" إذ: للتعليل، والضمير في لها للعمرة.

                                                قوله: "إلا أن عليه في العمرة قضاء عمرة" وذلك لأجل العمرة التي دخل فيها ثم أحل عنها بالإحصار، وإنما يجب عليه القضاء في ذلك لكون اعتمار النبي -عليه السلام- من العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، ولذلك لم يقل لأحد من الصحابة: عليكم قضاء هذه العمرة، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي أحصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه، فدل ذلك أن المحصر بالعمرة إذا أحل منها لا قضاء عليه.

                                                قلت: هذا الذي ذكرته كله لا يستلزم نفي وجوب القضاء، وثبت وجوب القضاء بما ذكرنا آنفا ولقول ابن مسعود -رضي الله عنه- لما استفتي في ذلك اللديغ: "يبعث بهدي ويواعد أصحابه موعدا، فإذا نحر عنه حل ثم عليه عمرة بعد ذلك".

                                                وقد مر ذكره في هذا الباب، وكذلك قال ابن عباس؛ قال ابن أبي شيبة في "مصنفه": نا ابن علية ، عن أيوب ، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "أمر الله بالقصاص، أفيأخذ منكم العدوان؟! حجة بحجة وعمرة بعمرة".

                                                قوله: "وعليه في الحجة حجة" أي وعلى المحصر بالحج حجة من قابل لمكان حجته، وعمرة لإحلاله قبل أوانها.

                                                وقال الشافعي: عليه حجة لا غير، واستدل بما روي عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفا، ولأن القضاء يكون مثل الفائت والفائت هو الحجة لا غير فيقضي الحجة وحدها.

                                                [ ص: 227 ] وأصحابنا استدلوا بما روي عن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهم- قالا في المحصر بحجة: يلزمه حجة وعمرة، وروي ذلك عن عكرمة والحسن والنخعي ومحمد بن سيرين والقاسم وسالم .

                                                قال ابن أبي شيبة: ثنا أبو خالد الأحمر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم، عن عكرمة قال: "إذا أهل الرجل بالحج فأحصر فليبعث بهديه؛ فإن مضى جعلها عمرة وعليه الحج من قابل [ولا هدي] عليه، وإن هو أخر ذلك حتى يحج فعليه حجة وعمرة وما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة".

                                                ثنا [هشيم] ، عن يونس وحميد ، عن الحسن قال: "عليه حجة وعمرة".

                                                ثنا هشيم عن مغيرة ، عن إبراهيم مثله.

                                                ثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عون، عن محمد: "إذا افترض الرجل الحج فأصابه حصر فإنه يبعث بهديه، فإذا بلغ الهدي محله حل، فإذا كان عام قابل حل بالحج والعمرة".

                                                ثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عوف قال: "سألت القاسم وسالما عن المحصر، فقالا نحو قول محمد .

                                                وأما الجواب عن قول ابن عباس: فإنه تمسك بالسكوت وهو لا يصح؛ لأن قوله: "حجة بحجة وعمرة بعمرة" يقتضي وجوب الحجة بالحجة والعمرة بالعمرة ولا يقتضي نفي وجوب العمرة بالحجة، فكان مسكوتا عنده، فيقف على قيام

                                                [ ص: 228 ] الدليل، وقد قام الدليل بما روي عن ابن مسعود وابن عمر، وهؤلاء الذين ذكرناهم، وعن عطاء في رواية في الذي يفوته الحج قال: "يحل بعمرة وليس عليه حج قابل".

                                                وعن طاوس مثله، وروى ابن الماجشون عن مالك في المحصر بعذر: "يحل بسنة الإحصار ويجزئه عن حجة الإسلام". وهو قول أبي مصعب صاحب مالك ، ومحمد بن سحنون ، وابن شعبان .

                                                وفي "المدونة": لا قضاء على المحصر في حج التطوع ولا هدي؛ لأن النبي -عليه السلام- لم يأمر أصحاب الحديبية بقضاء ولا هدي، إلا أن تكون حجة الإسلام فعليه حج قابل وهدي، وبه قال أبو عبد الله الشافعي وأبو ثور. انتهى.

                                                وأما المحصر إذا كان قارنا فعليه قضاء حجة وعمرتين، أما قضاء الحجة والعمرة فلوجوبهما بالشروع، وأما عمرة أخرى فلفوات الحج في عامه ذلك، وهذا على أصلنا، وأما على أصل الشافعي فليس عليه إلا حجة بناء على أصله: أن القارن محرم بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في الحجة، فكان حكمه حكم المفرد بالحج والمفرد بالحج إذا حصر لا يجب عليه إلا قضاء حجه عنده، وكذا القارن.




                                                الخدمات العلمية