الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4141 4142 4143 4144 ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام- ما قد دل على أن حكم الحلق باق على المحصرين كما هو على من وصل إلى البيت، وذلك أن ربيعا المؤذن حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى ، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، قال ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون، فقال رسول الله -عليه السلام-: يرحم الله المحلقين، ، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين، ، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين، . قالوا: يا رسول الله [و]، المقصرين؟ قال: والمقصرين، قالوا: فما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: إنهم لم يشكوا". .

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا يوسف بن بهلول ، قال: ثنا ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ... ، فذكر بإسناده مثله.

                                                [ ص: 233 ] حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون ، قال: ثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي إبراهيم الأنصاري ، قال: ثنا أبو سعيد الخدري ، قال: " سمعت النبي -عليه السلام- يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة".

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز ، وقال: ثنا علي بن المبارك ، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير ، أن أبا إبراهيم حدثه، عن أبي سعيد الخدري: " ، أن رسول الله -عليه السلام- عام الحديبية استغفر للمحلقين مرة وللمقصرين مرة وحلق رسول الله -عليه السلام- وأصحابه رءوسهم غير رجلين من الأنصار ورجل من قريش".

                                                قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فلما حلقوا جميعا إلا من قصر منهم، وفضل رسول الله -عليه السلام- من حلق منهم على من قصر؛ ثبت بذلك أنهم قد كان لهم الحلق أو التقصير كما كان عليهم لو وصلوا إلى البيت، ، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلا سواء، ولا كان لبعضهم في ذلك فضيلة على بعض، ففي تفضيل النبي -عليه السلام- في ذلك المحلقين على المقصرين دليل على أنهم كانوا في ذلك كغير المحصرين، فقد ثبت بما ذكرنا أن حكم الحلق أو التقصير لا يزيله الإحصار.

                                                التالي السابق


                                                ش: لما بين أن حكم الحلق باق في حصر المحصر بالعمرة بالنظر والعقل؛ ذكر أحاديث تدل على ذلك وتقويه، وأخرجها عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري، وأخرج حديث ابن عباس من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ، عن أسد بن موسى ، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه ابن ماجه: نا عبد الله بن نمير، نا يونس بن بكير، ثنا ابن إسحاق، حدثني ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: "قيل: يا رسول الله، لم ظاهرت المحلقين ثلاثا والمقصرين واحدة؟ قال: إنهم لم يشكوا".

                                                [ ص: 234 ] الثاني: عن فهد بن سليمان ، عن يوسف بن بهلول التميمي الأنباري شيخ البخاري وأحد أصحاب أبي حنيفة ، عن عبد الله بن إدريس الأودي الزعافري ، عن محمد بن إسحاق بن يسار ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا يزيد قال: نا محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اللهم اغفر للمحلقين -قالها ثلاثا- قال: فقالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم؟ قال: إنهم لم يشكوا".

                                                وكذلك أخرج حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- من طريقين:

                                                الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني اليشكري شيخ أبي داود والنسائي ، عن الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي ، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير الطائي ، عن أبي إبراهيم الأشهلي الأنصاري المدني، لا يسمى، وذكره ابن أبي حاتم وقال: يروي عن أبيه، روى عنه يحيى بن أبي كثير سمعت أبي يقول: أبو إبراهيم الأنصاري الذي روى عنه يحيى بن أبي كثير لا يدري من هو ولا أبوه وفي "التكميل": قال قوم: إن إبراهيم هذا هو عبد الله بن أبي قتادة، وقال شيخنا: ولا يصح ذلك وإن كان عبد الله بن أبي قتادة كنيته أبو إبراهيم؛ لأنه من بني سلمة، وهذا من عبد الأشهل. والله أعلم.

                                                روى له الترمذي والنسائي، وصحح الترمذي حديثه، وقد بسطنا الكلام فيه في أسماء رجال الكتاب.

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده": نا يزيد، نا هشام ، عن يحيى ، عن أبي إبراهيم ، عن أبي سعيد الخدري: "أن النبي -عليه السلام- أحرم وأصحابه عام الحديبية غير عثمان وأبي قتادة، فاستغفر للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة".

                                                [ ص: 235 ] الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري ، عن علي بن المبارك الهنائي البصري ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي إبراهيم ، عن أبي سعيد الخدري ... إلى آخره.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" وقال: ثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي إبراهيم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي -عليه السلام- نحوه.

                                                قوله: "رحم الله المحلقين" إنشاء في صورة الإخبار، ومعناه: اللهم ارحم المحلقين.

                                                قوله: "والمقصرين" يعني: يا رسول الله، ويرحم الله المقصرين أيضا؟ أو ادع الله أن يرحم المقصرين أيضا، والمقصر هو الذي يقصر من شعر رأسه ويأخذ من أطرافه ولا يحلقه.

                                                قوله: "فما بال المحلقين"، أي ما شأنهم وما حالهم.

                                                قوله: "ظاهرت لهم بالترحم" أي قصرتهم وأعنتهم وساعدتهم.

                                                قوله: "إنهم"، أي إن المحلقين "لم يشكوا" قيل: معناه لم يشكوا في أن الحلق أفضل عن التقصير وقيل: معناه لم يتوقفوا فيما أمرهم به النبي -عليه السلام- من الحلق، حيث بادروا بالامتثال وحلقوا واستجابوا له، بخلاف المقصرين فإنهم لم يكن معهم هدي، فلما أمرهم النبي -عليه السلام- بالحلق وجدوا من ذلك وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج، وكانت طاعة رسول الله -عليه السلام- أولى بهم، فلما لم يكن لهم بد من الإحلال كان القصر في نفوسهم أخف من الحلق فمالوا إليه، فلما رأى رسول الله -عليه السلام- ذلك منهم أخرهم في الدعاء، وقدم عليهم من حلق ثلاث مرات ودعا للمقصرين مرة، وجعل لهم أيضا نصيبا من دعوته حتى لا يجنب أحدا من أمته من صالح دعوته.

                                                [ ص: 236 ] وقيل: إنما دعا للمحلقين ثلاثا لأن الحلق أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية في القلب بخلاف المقصر؛ لأنه مبق لنفسه من الزينة التي أراد الله تبارك وتعالى أن يأتيه المستجيبون لدعوته في الحج متبرئين منها مظهرين للمذلة والخشوع.

                                                قوله: "غير رجلين: رجل من الأنصار" وهو أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي، ورجل من قريش وهو عثمان بن عفان؛ فإنهما لم يحلقا رءوسهما ولم يقصرا، لأنهما لم يكونا محرمين كما صرح بذلك في رواية أحمد .

                                                ويستفاد منه: أن الحلق نسك لا إباحة، ولو كان إباحة لم يستحق الدعاء والثواب عليه.

                                                وأيضا فيه دلالة على أن الحلق أفضل، والتفاضل لا يكون في الإباحة.

                                                وفيه جواز التقصير وفيه أن المحصر لا ينبغي له أن يترك الحلق.

                                                فإذا تركه يصير كتركه وهو غير محصر.

                                                ثم اعلم أن أحاديث دعوة النبي -عليه السلام- للمحلقين رواها جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وقال الترمذي عقيب إخراجه حديث ابن عمر في هذا: وفي الباب عن ابن عباس وأم الحصين ومارب وأبي سعيد وأبي مريم وحبشي بن جنادة وأبي هريرة .

                                                قلت: وفي الباب عن جابر بن عبد الله أيضا وقد أخرج الطحاوي حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري كما مر.

                                                وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله -عليه السلام- قال: "اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين".

                                                وقال الليث: ثنا نافع: رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قال: وقال عبيد الله:

                                                حدثني نافع، قال: وفي الرابعة قال: "والمقصرين".

                                                [ ص: 237 ] وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي .

                                                وأما حديث أم الحصين فأخرجه مسلم: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا وكيع وأبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن يحيى بن الحصين ، عن جدته: "أنها سمعت النبي -عليه السلام- في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة واحدة" ولم يقل وكيع: "في حجة الوداع".

                                                وأما حديث مارب -بالميم- ويقال: قارب -بالقاف- بن الأسود بن مسعود الثقفي".

                                                وهو ابن أخي عروة بن مسعود
                                                فأخرجه الحميدي في "مسنده": عن ابن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن وهب بن عبد الله بن قارب أو مارب -على الشك- عن أبيه، عن جده: "أن النبي -عليه السلام- قال: يرحم الله المحلقين".

                                                قال أبو عمر: لا أحفظ هذا الحديث من غير رواية ابن عيينة، وغير الحميدي يقول: "قارب" من غير شك، وهو الصواب وهو مشهور ومعروف من وجوه ثقيف.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن وهب بن عبد الله -أراه عن أبيه- قال: "كنت مع أبي، فرأيت النبي -عليه السلام- يقول بيده: يرحم الله المحلقين، فقال رجل: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال في الثالثة: والمقصرين".

                                                [ ص: 238 ] وأما حديث أبي مريم فأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في "مسنده": ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا أوس بن عبد الله السلولي، حدثني عمي يزيد بن أبي مريم ، عن أبيه مالك بن ربيعة سمعت النبي -عليه السلام- يقول: "اللهم اغفر للمحلقين، قال رجل: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: والمقصرين".

                                                وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة أيضا: نا عبيد الله، نا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: [اللهم] اغفر للمقصرين".

                                                وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري: نا عياش بن الوليد، نا محمد بن الفضل، نا عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ -قالها ثلاثا- قال: والمقصرين".

                                                وأخرجه مسلم أيضا.

                                                وأما حديث جابر فأخرجه أبو قرة في "سننه" من حديث زمعة بن صالح ، عن زياد بن سعد ، عن أبي الزبير، سمع جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: "حلق رسول الله -عليه السلام- يوم الحديبية، فحلق ناس كثير من أصحابه حين رأوه حلق، وقال آخرون: والله ما طفنا بالبيت، فقصروا، فقال رسول الله -عليه السلام-: يرحم الله المحلقين، وقال في الرابعة وللمقصرين".




                                                الخدمات العلمية