الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4156 ص: واختلف هؤلاء فقال بعضهم: وكذلك الناس جميعا من كان بعد الميقات وقبل الميقات غير أهل مكة خاصة.

                                                وقال آخرون: من كان منزله في بعض المواقيت أو فيما بعدها إلى مكة ، فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لم يدخل مكة إلا بإحرام، وممن قال هذا القول: أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد -رحمهم الله-.

                                                وقال آخرون: أهل المواقيت حكمهم حكم من كان قبل المواقيت، وجعل أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد -رحمهم الله- حكم أهل المواقيت كحكم من كان من ورائهم إلى مكة، . وليس النظر في هذا عندنا ما قالوا؛ لأنا رأينا من يريد الإحرام إذا جاوز الميقات حلالا حين فرغ من حجته ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ومن أحرم من المواقيت كان محسنا، فكذلك من أحرم قبلها كان كذلك أيضا، فلما كان الإحرام من المواقيت في حكم الإحرام مما قبلها لا في حكم الإحرام مما بعدها؛ ثبت أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها؛ فلا يجوز لأهلها من دخول الحرم إلا ما يجوز لأهل الأمصار التي قبل المواقيت فانتفى بهذا ما قال أبو حنيفة 5 وأبو يوسف 5 ومحمد في حكم [أهل] المواقيت.

                                                [ ص: 261 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 261 ] ش: أي اختلف الآخرون فيما بينهم أيضا، فقال بعضهم وهم عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وإبراهيم النخعي وطاوس وكذلك الناس جميعا: لا يدخلون مكة بغير إحرام، سواء كان ممن كان بعد الميقات أو قبل الميقات إلا أهل مكة خاصة.

                                                "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم الحسن بن حي والثوري والأوزاعي، من كان منزله في بعض المواقيت -مثلا كان منزله في ذي الحليفة أو في الجحفة- أو كان فيما بعدها أي بعد المواقيت إلى مكة؛ فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لا يدخلها إلا بإحرام، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد -رحمهم الله-.

                                                "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم أحمد وأبو ثور والشافعي -في قول-: إن حكم أهل المواقيت كحكم من كان قبل المواقيت، يعني لا يدخلها إلا بإحرام، وإليه ذهب الطحاوي واختاره، على ما يدل عليه كلامه.

                                                قوله: "وليس النظر في هذا عندنا ما قالوا" أي ليس وجه النظر والقياس في هذا ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وجه النظر: أن من أراد الإحرام إذا جاوز الميقات من غير إحرام حتى دخل مكة وحج وفرغ من حجته ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ولو كان أحرم من المواقيت كان محسنا، فكذلك من أحرم من قبل المواقيت كان كذلك أيضا، فإذا كان الإحرام من المواقيت في حكم الإحرام مما قبل المواقيت لا في حكم الإحرام مما بعد المواقيت؛ ثبت بذلك أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها، فحينئذ لا يجوز لأحد من أهلها دخول الحرم إلا بالإحرام، فانتفى بذلك ما قاله أبو حنيفة وصاحباه في حكم المواقيت؛ فافهم.

                                                واعلم أنهم اختلفوا فيمن جاوز الميقات وهو يريد الحج أو العمرة، فقال مالك وابن المبارك وأبو حنيفة: عليه دم ولا ينفعه رجوعه إلى الميقات، وقال الشافعي والأوزاعي: إن رجع إلى الميقات سقط عنه الدم، لبى أو لم يلب، وروي عن أبي حنيفة: إن رجع فلبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقط عنه

                                                [ ص: 262 ] الدم، وقال عطاء والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات، وقال سعيد بن جبير: إن ترك الرجوع إلى الميقات حتى قضى حجه فلا حج له، وقال الحسن البصري: إن لم يرجع إلى الميقات حتى تم حجه رجع إلى الميقات فأهل بعمرة.

                                                وهذه الأقوال الثلاثة شاذة ضعيفة لا أصل لها في أثر ولا نظر، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور على أن من مر بالميقات لا يريد حجا ولا عمرة ثم بدا له أن يحرم أحرم من حيث بدا له ولا يرجع إلى الميقات ولا شيء عليه، وقال أحمد وإسحاق: يرجع إلى الميقات ويحرم منه.

                                                واختلف في العبد يجاوز الميقات من غير نية الإحرام ثم يحرم، فقال مالك والثوري والأوزاعي: لا شيء عليه، قال مالك: وكذلك الصبي يجاوزه ثم يحتلم فيحرم، وقال الشافعي مرة: عليه دم، وقال أبو حنيفة: عليه دم لتركه الميقات أذن له السيد أو عتق، وقال الشافعي في الكافر يجاوز الميقات ثم يسلم: لا شيء عليه، وقال مرة: عليه الدم.




                                                الخدمات العلمية