الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4158 4159 4160 [ ص: 269 ] ص: حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا مسدد ، قال: ثنا يحيى ، عن ابن أبي ذئب ، قال: حدثني سعيد المقبري ، قال: سمعت أبا شريح الكعبي ، يقول: قال رسول الله -عليه السلام-: " إن الله -عز وجل- حرم مكة ولم يحرمها الناس، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما ولا يعضدن فيها شجرا؛ فإن ترخص مترخص، فقال: قد حلت لرسول الله -عليه السلام- فإن الله -عز وجل- أحلها لي ولم يحلها للناس، وإنما أحلها لي ساعة". .

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا يوسف بن بهلول ، قال: ثنا عبد الله بن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الخزاعي قال: "لما بعث عمرو بن سعيد البعث إلى مكة لغزو ابن الزبير -رضي الله عنهما- أتاه أبو شريح ، فكلمه بما سمع من رسول الله -عليه السلام- ثم خرج إلى نادي قومه فجلس، فقمت إليه فجلست معه، قال فحدث عما حدث عمرا عن رسول الله -عليه السلام- وعما جاوبه عمرو، . قال: قلت له: إنا كنا مع رسول الله -عليه السلام- حين فتح مكة، ، فلما كان الغد من يوم الفتح خطبنا فقال: يا أيها الناس، إن الله -عز وجل- حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد بها شجرا، لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل [لي] إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ثم قد عادت كحرمتها بالأمس، فمن قال لكم: إن رسول الله -عليه السلام- قد أحلها، فقولوا له إن الله -عز وجل- قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك.

                                                فقال لي: انصرف أيها الشيخ فنحن أعرف بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا مانع خربة ولا خالع طاعة، قلت: قد كنت شاهدا وكنت غائبا، وقد أمر رسول الله -عليه السلام- أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك".


                                                [ ص: 270 ] حدثنا بحر -هو ابن نصر- عن شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الخزاعي ، عن النبي -عليه السلام- ... نحوه.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن محمد بن خزيمة ، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود ، عن يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني ، عن سعيد بن أبي سعيد كيسان المدني ، عن أبي شريح الكعبي الخزاعي العدوي الصحابي، قيل: اسمه خويلد بن عمرو وقيل: عبد الرحمن بن عمرو وقيل: هانئ بن عمرو، وقيل: كعب بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، والمشهور: خويلد بن عمرو .

                                                وأخرجه الطبراني: نا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري، حدثني أبي، ثنا عبد العزيز بن محمد ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح، أن النبي -عليه السلام- قال: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما وأن يعضد بها شجرا، فإن ارتخص بها أحد فقال: أحلت للنبي -عليه السلام- فإن الله أحلها لي ساعة من نهار ولم يحلها لأحد غيري، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس".

                                                وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي .

                                                فإن قيل: قوله -عليه السلام-: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس" يعارضه قوله الآخر: "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها".

                                                [ ص: 271 ] قلت: ليس الأمر كذلك؛ لأن معنى قوله: "إن إبراهيم حرم مكة" إن إبراهيم أعلن بتحريم مكة، وعرف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها، فلما لم يعرف تحريمها إلا في زمانه على لسانه أضيف التحريم إليه، وذلك كما أضاف الله تعالى توفي النفوس مرة إليه بقوله: الله يتوفى الأنفس ومرة إلى ملك الموت بقوله: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ومرة إلى الملائكة أعوان ملك الموت بقوله: الذين تتوفاهم الملائكة ويجوز أن يضاف الشيء إلى من له فيه سبب.

                                                وقد يقال: يحتمل أن يكون إبراهيم -عليه السلام- منع من الصيد بمكة والقتال فيها وشبهها، وأني أمنع مثل ذلك في المدينة لأن التحريم في كلام العرب المنع، قال تعالى: وحرمنا عليه المراضع أراد منعنا قبول المراضع.

                                                الثاني: عن فهد بن سليمان ، عن يوسف بن بهلول التميمي شيخ البخاري ، عن عبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري ، عن محمد بن إسحاق المدني ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا يعقوب، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الخزاعي قال: "لما بعث عمرو بن سعيد إلى مكة بعثه لغزو ابن الزبير -رضي الله عنهما- أتاه أبو شريح فكلمه، وأخبره بما سمع من رسول الله -عليه السلام- ثم خرج إلى نادي قومه فجلس إليه، فقمت إليه فجلست معه، فحدث قومه كما حدث عمرو بن سعيد ما سمع من رسول الله -عليه السلام- وعما قال له عمرو بن سعيد، قال: قلت: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله -عليه السلام- حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك،

                                                [ ص: 272 ] فقام رسول الله -عليه السلام- فينا خطيبا فقال: أيها الناس، إن الله -عز وجل- حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد بها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله -عليه السلام- قد قاتل بها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر أن يقع، [لئن] قتلتم قتيلا لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا أخذوا بقتاله، وإن شاءوا بعقله ثم ودى رسول الله -عليه السلام- الرجل الذي قتلته خزاعة.

                                                فقال عمرو بن سعيد لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم ولا خالع طاعة ولا مانع خربة، قال: فقلت: قد كنت شاهدا وكنت غائبا، فقد بلغت وقد أمرنا رسول الله -عليه السلام-، أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغتك، فأنت وشأنك".


                                                وأخرجه الطبراني: من طريق محمد بن إسحاق أيضا نحوه.

                                                قوله: "لما بعث عمرو بن سعيد" هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو أمية المعروف بالأشدق قال الهيثم بن عدي: كان أفقم وذكر المرزباني أنه عرف بالأشدق لأنه صعد المنبر فبالغ في شتم علي -رضي الله عنه- فأصيب بلقوة، وقال المبرد: كان عبد الله بن الزبير يلقبه لطيم الشيطان، وقال ابن سعد: ولاه يزيد بن معاوية المدينة، وكان أحب الناس إلى أهل الشام، وكانوا يسمعون له ويطيعون، قال: وكتب إليه يزيد أن يوجه إلى عبد الله بن الزبير بن العوام جيشا، فوجه إليه جيشا واستعمل عليهم عمرو بن الزبير بن [ ص: 273 ] العوام، ويقال: إنه رأى النبي -عليه السلام-، وروى عنه أنه قال: "ما نحل والد ولدا أحسن من أدب حسن"، وحديث آخر في العتق، وروى عن عمر وعثمان وعلي وعائشة -رضي الله عنهم- وحدث عنه بنوه أمية وسعيد وموسى وغيرهم، وكان معاوية استنابه على المدينة، وكذلك ابنه يزيد بن معاوية بعد أبيه، وكان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد -عليه ما يستحق- لقتال ابن الزبير، وكان جرى له أمور كثيرة وآخر الأمر قتله عبد الملك بن مروان في سنة تسع وستين من الهجرة.

                                                قوله: "إلى نادي قومه" أي مجلس قومه، النادي والندي: مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والندوة والمنتدى والمتندى فإن تفرق القوم فليس بندي ومنه سميت دار الندوة بمكة التي بناها قصي، لأنهم كانوا يندون فيها: أي يجتمعون فيها للمشاورة.

                                                قوله: "ولا تحل لأحد بعدي" أي القتال الذي حل لي ومحاربة أهلها؛ لأنهم لا يكفرون فيقاتلون، وهذا على طريق النهي لا على طريق الخبر أنها لا تقاتل، إذ قد قاتلها الحجاج وغيره، وأخبر -عليه السلام- عن غلبة ذي السويقتين عليها وتخريبه لها، وإنما أخبر عن حكم قتال أهلها أنه لا يحل لأحد بعده.

                                                قوله: "ولا مانع خربة" الخربة أصلها العيب، والمراد به ها هنا الذي ينفرد بشيء ويغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة، وقد جاء في سياق الحديث في كتاب البخاري: أن الخربة: الجناية، فعلى هذا يكون المعنى ولا من يمنع الجناية، وفي بعض المواضع الخربة: الزلة يقال: "ما لفلان خربة" أي زلة، قال أبو المعالي: الخارب اللص والخرابة: اللصوصية، قال الأصمعي: الخارب سارق الإبل خاصة، والجمع خراب وخرب فلان بإبل فلان يخرب خرابة: مثل كتب يكتب كتابة، والخربة الفعلة منه، وفي "المحكم": الخربة بالفتح، والخربة بالضم، والخرب والخرب كذلك: الفساد في الدين، وقال اللحياني: خرب فلان بإبل فلان يخرب بها خربا وخروبا وخرابة أي سرقها، كذا حكاه متعديا بالباء، وقال مرة: خرب فلان أي

                                                [ ص: 274 ] صار لصا، وقال عياض في قوله: "ولا فارا بخربة" كذا رويناه هنا بفتح الخاء وبالراء والباء الموحدة، وضبطه الأصيلي في "صحيح البخاري" بضم الخاء، ورواه الترمذي في بعض الطرق بخزية، وأراه وهما، قال ابن الأثير: قال الترمذي: وقد روى بخزية فيجوز أن يكون بكسر الخاء وهو الشيء الذي يستحيى منه أو من الهوان والفضيحة، ويجوز أن يكون بالفتح، وهو الفعلة الواحدة منها.

                                                الثالث: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني شيخ أبي عوانة الإسفرائيني ، ومحمد بن خزيمة ، عن شعيب بن الليث ، عن أبيه الليث بن سعد ، عن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح الخزاعي ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه البخاري: ثنا قتيبة، ثنا الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي: "أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة شرفها الله تعالى: أتأذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله -عليه السلام- الغد يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: إنه حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فأي أحد ترخص بقتال رسول الله -عليه السلام- فقولوا له: إن الله تعالى قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا ليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذاك منك يا أبا شريح: إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بعدم ولا فارا بخربة".

                                                وأخرجه مسلم نحوه: عن قتيبة ، عن ليث ... إلى آخره.




                                                الخدمات العلمية