الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4204 4205 4206 4207 4208 4209 4210 4211 4212 [ ص: 313 ] ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا محمد بن إسحاق (ح).

                                                وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال: ثنا عبد الله بن هارون ، قال: ثنا أبي ، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثنا أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وعطاء ، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة بنت الحارث وهو حرام قائم بمكة ثلاثا، فأتاه حويطب بن عبد العزى ، في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم، فصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟! فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا، فخرج رسول الله -عليه السلام- وخرج بميمونة ، حتى عرس بها بسرف".

                                                حدثنا يزيد بن سنان ، قال: ثنا أبو عامر ، قال: ثنا رباح بن أبي معروف ، عن عطاء ، عن ابن عباس: " أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة بنت الحارث ، وهو محرم". .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال: ثنا معلى بن أسد ، قال: ثنا وهيب ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا علي بن شيبة ، قال: ثنا أبو نعيم ، قال: ثنا سفيان ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح).

                                                وحدثنا ابن خزيمة ، قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار (ح).

                                                وحدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس، قالا: ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                [ ص: 314 ] قال عمرو: فحدثني ابن شهاب ، عن يزيد بن الأصم: " أن النبي -عليه السلام- نكح ميمونة ، وهي خالته وهو حلال، قال عمرو : فقلت للزهري: وما يدري ابن الأصم أعرابي بوال، أتجعله مثل ابن عمر؟! ".

                                                التالي السابق


                                                ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس .

                                                وأخرجه من تسع طرق صحاح:

                                                الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن ، عن أسد بن موسى ، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن إسحاق بن يسار ، عن أبان بن صالح بن عمير المكي ، وعبد الله بن أبي نجيح يسار المكي كليهما، عن مجاهد بن جبر المكي ، وعطاء بن أبي رباح المكي، كليهما عن ابن عباس .

                                                ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسا فقد صرح بالتحديث، وصحح حديثه ابن حبان وغيره، وأخرجه ابن إسحاق في "مغازيه" وموسى بن عقبة أيضا عن الزهري قال: وبعث رسول الله -عليه السلام- بين يديه يعني بعدما خرج معتمرا جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية، فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس وكان زوج أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله -عليه السلام- ... وساق الحديث إلى أن قال: فقام رسول الله -عليه السلام- وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية، فلما أن أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، ورسول الله -عليه السلام- في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن عبد العزى نناشدك الله والعقد إلا خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث، فقال سعد بن عبادة: كذبت، لا أم لك، ليس بأرضك ولا بأرض آبائك، والله لا يخرج، ثم نادى رسول الله -عليه السلام- سهيلا وحويطبا فقال: إني قد نكحت فيكم امرأة، فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت منا، فأمر رسول الله -عليه السلام- أبا رافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله -عليه السلام- حتى نزل بطن سرف وأقام

                                                [ ص: 315 ] المسلمون، وخلف رسول الله -عليه السلام- أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة، وقد لقيت ميمونة ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله -عليه السلام- بسرف، فبنى بها ثم أدلج، فسار حتى قدم المدينة، وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها رسول الله -عليه السلام-.


                                                الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن عبد الله بن هارون بن أبي عيسى الشامي أبي علي نزيل البصرة، وثقه ابن حبان ، عن أبيه هارون بن أبي عيسى الشامي كاتب محمد بن إسحاق، وثقه ابن حبان وروى له النسائي ، عن محمد بن إسحاق ... إلى آخره.

                                                قوله: "وهو حرام" جملة حالية، والحرام ضد الحلال، وأراد به: وهو محرم.

                                                قوله: "فعرست" هكذا هو من التعريس، قال الجوهري: أعرس فلان: أي أعد عرسا، وأعرس بأهله إذا بنى بها، وكذلك إذا غشيها ولا تقل: عرس، والعامة تقوله. انتهى، وهذا كما تراه يرد قول الجوهري، وكذلك قوله: "حتى عرس" بها.

                                                قوله: "بين أظهركم" معناه: فعرست بينكم على سبيل الاستظهار، والمعنى أن ظهرا منهم قدامه، وظهرا وراءه، فهو مكشوف من جانبيه ومن جوانبه إذا قيل: بين أظهرهم.

                                                قوله: "بسرف" أي في سرف وقد ذكرنا غيره مرة أنها بفتح السين وكسر الراء وفي آخره فاء، موضع بينه وبين مكة، وهو على ستة أميال من مكة.

                                                الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز ، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ، عن رباح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي ، عن عطاء بن رباح والكل ثقات، وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال: "تزوج رسول الله -عليه السلام- ميمونة وهو محرم وهي محرمة، بماء يقال له سرف".

                                                [ ص: 316 ] الرابع: عن محمد بن خزيمة ، عن معلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري ، عن وهيب بن خالد ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه طاوس ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه الطبراني: نا العباس بن الفضل الأسفاطي، نا سهل بن بكار، ثنا وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- نكح ميمونة وهو محرم".

                                                الخامس: عن علي بن شيبة ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه الطبراني أيضا: ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، نا سفيان ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس: "أن النبي -عليه السلام- تزوج وهو محرم، واحتجم وهو محرم".

                                                السادس: عن ربيع المؤذن ، عن أسد بن موسى ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده": نا يحيى ، عن هشام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرم، واحتجم وهو محرم".

                                                السابع: عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه النسائي: أنا عمرو بن علي ، عن محمد بن سواء، نا سعيد ، عن قتادة ، ويعلى بن حكيم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: "تزوج رسول الله -عليه السلام- ميمونة بنت الحارث وهو محرم" وفي حديث يعلى: "بسرف".

                                                [ ص: 317 ] الثامن: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن إبراهيم بن بشار الرمادي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه مسلم: نا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق الحنظلي، جميعا عن ابن عيينة، قال ابن نمير: نا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء، أن ابن عباس أخبره: "أن النبي -عليه السلام- تزوج وهو محرم" زاد ابن نمير: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم: "أنه نكحها وهو حلال".

                                                التاسع: عن إسماعيل بن يحيى المزني ، عن محمد بن إدريس الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ... إلى آخره.

                                                وأخرجه البيهقي في كتاب "المعرفة": أنا أبو عبد الله وأبو بكر وأبو زكريا، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن شهاب، قال: أخبرني يزيد بن الأصم: "أن رسول الله -عليه السلام- نكح وهو حلال" قال عمرو قلت لابن شهاب: أتجعل يزيد بن الأصم إلى ابن عباس؟!" .

                                                قال أحمد: ورواه الحميدي ، عن سفيان، وزاد فيه: قال: "نكح ميمونة وهو حلال، وهي خالته، قال: فقلت لابن شهاب: أتجعل أعرابيا بوالا على عقبيه إلى ابن عباس؟! " وقد ذكره الشافعي في رواية المزني عنه.

                                                قوله: "وما يدري ابن الأصم" أي يزيد بن الأصم، واسم الأصم: عمرو -ويقال: عبد عمرو- بن عبيد العامري البكائي أبو عوف المكي نزل الرقة، أمه برزة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي -عليه السلام-، وخاله عبد الله بن عباس، قيل: إن له رؤية من النبي -عليه السلام-، وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين.

                                                [ ص: 318 ] قوله: "أعرابي بوال" أراد به نسبته إلى الجهل، ومعناه جاهل بالسنة، والأعرابي: البدوي، والغالب على أهل البادية الجهل، وأراد عمرو بن دينار بهذا الكلام الطعن في حديث زيد بن الأصم، حيث قال: إن النبي -عليه السلام- نكح ميمونة وهو حلال، وهو يخالف ما قال ابن عباس: "إن النبي -عليه السلام- تزوجها وهو محرم".

                                                فإن قيل: قال البيهقي: هذا الذي قاله عمرو بن دينار لا يوجب طعنا في روايته، ولو كان مطعونا من الرواية لما احتج به ابن شهاب الزهري، وإنما قصد ابن دينار بما قال ترجيح رواية ابن عباس على رواية يزيد بن الأصم، والترجيح يقع بما قال عمرو لو كان يزيد يقوله مرسلا كما [كان] ابن عباس يقوله مرسلا إذ لم يشهد عمرة القضية كما لم يشهدها يزيد بن الأصم، إلا أن يزيد إنما رواه عن ميمونة وهي صاحبة الأمر فهي أعلم بأمرها من غيرها.

                                                أنا أبو عبد الله الحافظ ، قال: أخبرني عبد الله بن أحمد النسوي، قال: ثنا الحسن بن سفيان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: ثنا أبو فزارة ، عن يزيد بن الأصم، قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث: "أن رسول الله -عليه السلام- تزوجها وهي حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس".

                                                وأخرجه مسلم في "الصحيح": عن أبي بكر بن أبي شيبة .

                                                وكذلك رواه ميمون بن مهران ، عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة موصولا، وإن كان جعفر بن برقان رواه عن ميمونة مرسلا؛ فقد رواه حبيب بن الشهيد وهو أوثق من جعفر بن برقان، ومعه الوليد بن زروان، كلاهما عن ميمون بن مهران موصولا، ومع روايتهما عن ميمون رواية أبي فزارة عن يزيد موصولا، وكل بحمد الله ثقة، فلا يبقى لك طعن في رواية الثقات.

                                                [ ص: 319 ] قلت: هذا إنكار من البيهقي للأمر الصريح مثل الشمس، وكيف لا يكون هذا طعنا من عمرو بن دينار في رواية يزيد بن الأصم وهو ينادي بأعلى صوته ويقول: أتجعل أعرابيا بوالا على عقبيه إلى ابن عباس؟! وكيف يكون طعن بأكثر من ذلك؟! واحتجاج الزهري بيزيد بن الأصم لا ينفي طعن عمرو بن دينار فيه، فإن عمرو بن دينار نفسه حجة ثبت ولا ينقص عن الزهري، على أن بعضهم قد رجحوه على مثل عطاء ومجاهد وطاوس .

                                                قوله: "والترجيح يقع بما قال عمرو ... إلى آخره غير مسلم؛ لأن مرسل ابن عباس مسند لا ريب فيه، ومرسله خير من مسند غيره من التابعين، ويزيد بن الأصم لا يلحق ابن عباس ولا يقرب منه، ومرسل ابن عباس أعلى من مسند من أكبر من يزيد بن الأصم فضلا عن يزيد بن الأصم، ثم إن الذين رووا أنه -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو محرم نحو سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد؛ أعلى وأثبت من الذين رووا أنه تزوجها وهو حلال، وميمون بن مهران وحبيب بن الشهيد ونحوهما لا يلحقون هؤلاء الذين ذكرناهم.




                                                الخدمات العلمية