الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4219 4220 ص: فكان من حجتنا عليهم أن هذا الأمر إن كان يؤخذ من طريق صحة الإسناد واستقامته وهكذا مذهبهم، فإن حديث أبي رافع الذي ذكروا فإنما رواه مطر الوراق ، ومطر عندهم ليس هو ممن يحتج بحديثه، وقد رواه مالك، وهو أضبط منه وأحفظ فقطعه.

                                                حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا، حدثه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار: " ، أن رسول الله -عليه السلام- بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ، وهو بالمدينة ، قبل أن يخرج". . وحديث يزيد بن الأصم ، فقد ضعفه عمرو بن دينار في خطابه للزهري، ، وترك الزهري الإنكار عليه، وأخرجه من أهل العلم وجعله أعرابيا بوالا، وهم يضعفون الرجل بأقل من هذا الكلام، وبكلام من هو أقل من عمرو بن دينار 5 والزهري، . وقد أجمعا جميعا على الكلام بما ذكرنا في يزيد بن الأصم، ؟ ومع هذا فإن الحجة عندكم في ميمون بن مهران ، هو جعفر بن برقان، ، وقد روى هذا الحديث منقطعا.

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو نعيم ، قال: ثنا جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ، قال: " كنت عند عطاء ، فجاءه رجل، فقال: هل يتزوج المحرم؟ فقال: ما حرم الله -عز وجل- النكاح منذ أحله، قال ميمون: : فقلت له: إن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- كتب إلي أن سل يزيد بن الأصم ، أكان رسول الله -عليه السلام- حين تزوج ميمونة ، حلالا أو حراما؟ فقال يزيد: : تزوجها وهو حلال، فقال عطاء: : ما كنا نأخذ بهذا إلا عن ميمونة، ، كنا نسمع أن رسول الله -عليه السلام- تزوجها وهو محرم". .

                                                فأخبر جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران ، بالسبب الذي وقع إليه هذا الحديث عن يزيد بن الأصم، ، وأنه إنما كان ذلك من قول يزيد ، لا عن ميمونة ،

                                                [ ص: 325 ] ولا عن غيرها، ثم حاج ميمون بعد عطاء ، فذكره عن يزيد ، ولم يجوزه به، فلو كان عنده عمن هو أبعد منه لاحتج به؛ ليؤكد بذلك حجته، فهذا هو أصل هذا الحديث أيضا عن يزيد بن الأصم ، لا عن غيره، والذين رووا أن النبي -عليه السلام- تزوجها وهو محرم أهل علم وثبت أصحاب ابن عباس -رضي الله عنهما- سعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وجابر بن زيد . -رضي الله عنهم- وهؤلاء أئمة فقهاء يحتج برواياتهم وآرائهم، والذين نقلوا عنهم فكذلك أيضا منهم: عمرو بن دينار ، وأيوب السختياني ، وعبد الله بن أبي نجيح، . فهؤلاء أيضا أئمة يقتدى برواياتهم، ثم قد روي عن عائشة أيضا ما قد وافق ما روي عن ابن عباس، روى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه: أبو عوانة، ، عن مغيرة، ، عن أبي الضحى، ، عن مسروق، . فكل هؤلاء أئمة يحتج بروايتهم، فما رووا من ذلك أولى مما روى من ليس كمثلهم في الضبط والفقه والأمانة.

                                                وأما حديث عثمان -رضي الله عنه- فإنما رواه نبيه بن وهب، ، وليس كعمرو بن دينار ، ولا كجابر بن زيد ، ولا كمن روى ما يوافق ذلك عن مسروق، ، عن عائشة، ، ولا لنبيه أيضا موضع في العلم كموضع أحد [ممن] ذكرنا، فلا يجوز إذ كان كذلك أن يعارض بين جميع من ذكرنا ممن روى بخلاف الذي روى هو؛ فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي فكان من حجتنا ودليلنا على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عن الاعتراض المذكور، بيانه أن يقال: إن مذهبكم ومسلككم أنكم تدعون أن هذا الأمر لا يؤخذ إلا من طريق صحة الإسناد واستقامته، ثم تخالفون هذا وترجحون الأحاديث التي فيها أنه -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو حلال، على حديث ابن عباس أنه -عليه السلام- تزوجها وهو حرام، مع علمكم بأن طرق حديث ابن عباس أصح من تلك الأحاديث! وهذا تعسف منكم وعدم إنصاف، بيان ذلك: أما حديث أبي رافع الذي تحتجون به في جملة حججكم فإنه رواه مطر الوراق ، ومطر عندكم ليس ممن

                                                [ ص: 326 ] يحتج بحديثه، قال النسائي: مطر بن طهمان الوراق ليس بالقوي. وعن أحمد: كان في حفظه سوء ولين، سلمنا أنه مجمع عليه في ثقته وضبطه ولكنه ليس كرواة حديث ابن عباس ولا قريبا منهم، ومع هذا فقد روى مالك بن أنس حديث أبي رافع وقطعه ولم يوصله، ولا يشك أحد أن مالكا أحفظ من مطر وأضبط منه، وقال أبو عمر بن عبد البر: حديث مالك عن ربيعة في هذا الباب غير متصل، قد رواه مطر الوراق فوصله، رواه حماد بن زيد ، عن مطر الوراق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع، وذلك عندي غلط من مطر؛ لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين - وقيل: سنة تسع وعشرين- ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير، وكان قتل عثمان -رضي الله عنه- في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وغير جائز ولا ممكن أن يسمع سليمان من أبي رافع، فلا معنى لرواية مطر، وما رواه مالك أولى، والله أعلم. انتهى.

                                                قلت: العجب من البيهقي يعرف هذا المقدار في هذا الحديث ثم يسكت عنه ويقول مطر بن طهمان الوراق قد احتج به مسلم بن الحجاج! ومن يحتج في كتابه بمثل أبي بكر بن أبي مريم والحجاج بن أرطأة وموسى بن عبيدة وابن لهيعة ومحمد بن دينار الطاهي ومن هو أضعف منهم لا ينبغي له أن يرد رواية مطر الوراق، فانظر إلى هذا الكلام العجيب الذي لا طعم له، حيث يعرض بهذا ويلوح إلى الطحاوي بغير أصل ولا طريق، فالطحاوي متى ضعف مطرا الوراق؟! وإنما أخبر عن الخصم أنهم لا يحتجون بحديثه وبين أن وصله حديث أبي رافع غير صحيح كما ذكره أبو عمر، وأن قطعه هو الصحيح كما رواه مقطوعا من هو أضبط منه، ولا مناسبة لذكر البيهقي أيضا هؤلاء الجماعة الذين أشار إليهم بضعفهم؛ لأن الطحاوي لم يحتج في هذا المقام بأحد من هؤلاء حتى يورد عليه شيء، وإن كان قد روى لواحد منهم في غير هذا الموضع من الكتاب فيكون ذلك إما في المتابعات أو الشواهد، أو يكون قد ظهر عنده ما يوجب توثيق هؤلاء فاحتج بهم، فقول الطحاوي في هذا الباب حجة، فتوثيقه توثيق، وتضعيفه تضعيف، ولا ينازعه

                                                [ ص: 327 ] أحد في ذلك، ألا ترى إلى الشيخين فإنهما قد احتجا في "صحيحهما" بجماعة من الناس قد ضعفهم غيرهما فلم يعتبر الناس ذلك، فكذلك الطحاوي، والذي ذكره البيهقي هو شأنه وهو واقع فيه، فإنه في "سننه" ربما يحتج بواحد من الرواة عند كون الحجة له، ثم يضعفه في موضع آخر عند كون الحجة عليه، فمن تتبع ذلك في "سننه" وقف على ما ذكرنا، ونعوذ بالله من البهتان.

                                                وأما حديث يزيد بن الأصم فإنه قد ضعفه عمرو بن دينار في خطابه للزهري فلم يبق الاستدلال به صحيحا، وذلك [لأنهم] يضعفون الرجل بأقل من هذا الكلام، وبكلام من هو أقل من عمرو بن دينار، فما لهم يسكتون ها هنا ولا يقولون بتضعيف حديث يزيد بن الأصم؟! وقد ذكرنا فيما مضى ما قال البيهقي ها هنا، وما أجبت عنه، ولو كان كلام عمرو بن دينار لم يكن طعنا في يزيد بن الأصم لكان الزهري يرد عليه ما قاله فيه، فسكوته دليل على أن الصواب مع عمرو بن دينار، ومع هذا فإن الحجة عندهم في ميمون بن مهران هو جعفر بن برقان، وقد روى جعفر بن برقان هذا الحديث منقطعا.

                                                أخرجه الطحاوي ، عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال: "كتب عطاء ... ". إلى آخره فأخبر جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران بالسبب الذي له وقع إليه هذا الحديث عن يزيد بن الأصم، وأنه إنما كان ذلك من قول يزيد بن الأصم لا عن ميمونة ولا عن غيرها، ما يدفع بذلك ما قال البيهقي: رواه ميمون بن مهران ، عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة موصولا، وإن كان جعفر بن برقان رواه عن ميمون مرسلا فقد رواه حبيب بن الشهيد وهو أوثق من جعفر بن برقان ومعه الوليد بن زروان، كلاهما عن ميمون بن مهران موصولا، صح روايتهما عن ميمون رواية أبي فزارة ، عن يزيد موصولا، وكل بحمد الله ثقة، فلا يبقى لك طعن في رواية

                                                [ ص: 328 ] الثقات، ولئن سلمنا ما ذكره البيهقي وغيره، ولكن هؤلاء لا يساوون الذي رووه عن ابن عباس: أنه -عليه السلام- تزوجها وهو محرم؛ لأن الذين رووه عن ابن عباس أهل علم وثبت وضبط وإتقان، وهم: سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر وعكرمة مولى ابن عباس وجابر بن زيد أبو الشعثاء، فهؤلاء أئمة أجلاء أثبات وحجج يحتج بروايتهم، ويقتدى بآرائهم، وكذلك الذين رووا عنهم ونقلوا: منهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، أئمة ثقات أثبات يحتج برواياتهم فلا يشك أحد ممن له بصيرة وتمييز بين الرجال أن هؤلاء لا يساويهم رواة الأحاديث التي فيها أنه -عليه السلام- تزوج ميمونة وهو حلال، ولا يدانيهم ولا يقرب منهم، ومع هذا فحديث ابن عباس قد وافقه حديث عائشة وشيده وعضده برواة هم أئمة ثقات أجلاء لم يطعن فيهم أحد كأبي عوانة الوضاح الذي روى عن مغيرة بن مقسم، الذي يروي عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، الذي يروي عن مسروق بن الأجدع ، عن عائشة -رضي الله عنها-.

                                                وأما حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فإن الذي رواه نبيه بن وهب، وليس هو كعمرو بن دينار ولا جابر بن زيد، ولا يداني واحدا منهما ولا يقرب، ولا له موضع في العلم كموضع أحد منهم، وقال ابن العربي: ضعف البخاري حديث عثمان وصحح رواية ابن عباس .

                                                فهذا البخاري لو علم أن رواة حديث عثمان مساوون لرواة حديث ابن عباس لصحح كلا الحديثين، ولئن سلمنا أنهم متساوون فنقول: معنى قوله: لا ينكح المحرم: لا يطأ وهو محمول على الوطء، والكراهة لكونه سببا للوقوع في الرفث، لا أن عقده لنفسه أو لغيره بأمره ممتنع، ولهذا قرنه بالخطبة، ولا خلاف في جوازها وإن كانت مكروهة، فكذا النكاح والإنكاح، وصار كالبيع وقت النداء.

                                                فإن قيل: اجتمع ها هنا نصان: أحدهما: مثبت والآخر ناف؛ لأن قول من قال: تزوج ميمونة وهو حلال مثبت؛ لأن معناه أي خارج عن الإحرام بعد دخوله فيه،

                                                [ ص: 329 ] وهذا مثبت، لأنه يثبت أمرا عارضا على الإحرام، وقول من قال: إنه تزوجها وهو محرم ناف؛ لأنه ينفي الأمر العارض وهو الحل، فكان ينبغي أن يكون المثبت أولى لأنه أقرب إلى الصدق من النافي، ولهذا قبلت الشهادة على الإثبات دون النفي، وهذا اختيار أبي الحسن الكوفي أيضا.

                                                قلت: اتفقت الروايات على أن النكاح لم يكن في الحل الأصلي، وإنما الاختلاف في أنه كان في الحل المعترض على الإحرام أو كان في الإحرام؟ وأخذ أصحابنا في هذه الصورة بالنافي وهو أنه لم يكن في الحل الأصلي، وإنما اختاروا هذا وإن كانوا يأخذون في بعض المواضع بالمثبت، واختلاف أصحابنا في هذا يرجع إلى أصل، وهو أن النفي لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون من جنس ما يعرف بدليله بأن يكون مبناه على دليل، أو من جنس ما لا يعرف بدليله بأن يكون مبناه على الاستصحاب دون الدليل، أو احتمل الوجهان، فإن كان الأول فهو مساو للمثبت وتتحقق المعارضة بينهما ويعمل بالراجح منهما، وإن كان الثاني فالأخذ بالمثبت أولى؛ لأن ما لا دليل عليه لا يعارض ما ثبت بالدليل، وإن كان الثالث يستقصى وينظر في ذلك النفي؛ فإن تبين أنه مما يعرف بالدليل يكون كالإثبات فيتعارضان فيطلب الترجيح، وإن تبين أنه بناء على الاستصحاب فالإثبات أولى كالقسم الثاني، ثم النفي في حديث ميمونة مما يعرف بدليله، وهو هيئة المحرم، فإن الإحرام حالة مخصوصة يدرك عيانا من لبس ما ليس بمخيط، وكشف الرأس، فيكون كالإثبات فيقع بينهما المعارضة فيطلب الترجيح، فرجحناه بحال الراوي؛ لأنه تعذر الترجيح من نفس الحجة، فأخذنا برواية ابن عباس؛ لأنه روى القصة على وجهها وذلك دليل إتقانه، فكان الأخذ بروايته أولى؛ لأن راوي المثبت وهو يزيد بن الأصم لا يعادل ابن عباس في الضبط والإتقان والتفقه التي هي من أسباب ترجيح الرواية، ولهذا أنكر عمرو بن دينار حديثه وقال للزهري: وما يدري يزيد بن الأصم؛ أعرابي بوال على عقبيه، أتجعله مثل ابن عباس؟! فسكت الزهري ولم ينكر عليه. فافهم.




                                                الخدمات العلمية