الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                242 ص: قال أبو جعفر : -رحمه الله-: وليس في هذه الآية عندنا دليل على وجوب الوضوء لكل صلاة ; لأنه قد يجوز أن يكون قوله ذلك على القيام وهم محدثون، ألا ترى أنهم قد أجمعوا أن حكم المسافر هو هذا؟ وأن الوضوء لا يجب عليه حتى يحدث، فلما ثبت أن هذا حكم المسافر في هذه الآية، وقد خوطب بها كما خوطب الحاضر; ثبت [ ص: 410 ] أن حكم الحاضر فيها كذلك أيضا، وقد قال ابن الفغواء : : إنهم كانوا إذا أحدثوا لم يتكلموا حتى يتوضئوا، فنزلت هذه الآية إذا قمتم إلى الصلاة فأخبر أن ذلك إنما هو لقيام إلى الصلاة بعد حدث.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا جواب عما روي من فعل علي - رضي الله عنه - أنه كان يتوضأ لكل صلاة، ويحتج بقوله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وتحريره: أن أهل المقالة الأولى احتجوا فيما ذهبوا إليه بما روي عن علي - رضي الله عنه - وليس في ذلك دليل على ما قالوا; لأنه قد يجوز أن يكون المراد من قوله: هو القيام في حالة الحدث، ونحن أيضا نقول: إذا قام إلى الصلاة وهو محدث فعليه أن يتوضأ، وإن تعدد قيامه مع الحدث، ثم أوضح ذلك بقوله: "ألا ترى أنهم قد أجمعوا، أي أهل المقالتين أجمعوا أن حكم المسافر هو أنه لا يجب عليه الوضوء إلا بالحدث، وإن مضى عليه أوقات، والحال أنه مخاطب بالآية كما أن المقيم مخاطب بها، فإذا ثبت حكم المسافر على ما ذكرنا كان حكم الحاضر كذلك; لشمول الخطاب إياهما، ثم أكد ما ذكره من قوله: إن المراد هو القيام إلى الصلاة وهم محدثون، بما قال ابن الفغواء ، أنهم -أي الصحابة- كانوا إذا أصابهم الحدث لم يتكلموا حتى يتوضئوا; فنزلت هذه الآية، وهي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا فأخبر الله تعالى أن ذلك لأجل القيام إلى الصلاة بعد حدث لا لمطلق القيام، على ما عليه الجمهور من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم.

                                                وابن الفغواء هو عمرو بن الفغواء، ويقال: ابن أبي الفغواء ، والد عبد الله بن عمرو بن الفغواء ، له صحبة، وهو بالفاء ثم الغين المعجمة.

                                                وقد قال أبو بكر الرازي الآية غير مستعملة على حقيقتها; لأن فيها مضمرا يتعلق إيجاب الطهارة به، وهو النوم، والتقدير: إذا قمتم من النوم، وأراد به نوم [ ص: 411 ] النائم المضطجع; لأن من نام قاعدا، أو ساجدا، أو راكعا، لا يقال: إنه قام من النوم; لأن السلف وسائر فقهاء الأمصار اتفقوا على نفي إيجاب الوضوء على من نام قاعدا، غير مستند إلى شيء، وروى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - عليه السلام - أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس، ثم استيقظوا، فجاء عمر - رضي الله عنه - فقال: الصلاة يا رسول الله، فخرج وصلى" ولم يذكر أنهم توضأوا .

                                                وروى قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كنا نجيء إلى مسجد رسول الله - عليه السلام - ننتظر الصلاة، فمنا من نعس، ومنا من نام، ولا نعيد وضوءا" .

                                                وروى نافع عن ابن عمر قال: "لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام" ثم إنما كان نوم المضطجع حدثا; لاسترخاء مفاصله، فلا يؤمن منه خروج الريح، فإذا كانت العلة هذا يدخل في مضمر الآية إيجاب الوضوء من الريح، والغائط، والبول، والمذي، والمني، ودم الاستحاضة، فكل هذه أحداث، يشتمل عليها مضمر الآية، ويؤخذ من هذا أن النوم حدث، وبه قال علماء الأمة، إلا ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه لم يكن يراه حدثا، ولم يثبت ذلك ... انتهى.

                                                واعلم أن العلماء اختلفوا في النوم هل ينقض الوضوء أم لا؟ على مذاهب:

                                                أحدها: أن النوم لا ينقض الوضوء بحال، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، وأبي مجلز ، وحميد بن عبد الرحمن ، والأعرج ، قال ابن حزم وإليه ذهب الأوزاعي ، وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة وغيرهم، منهم: ابن عمر ، ومكحول ، وعبيدة السلماني .

                                                وادعى بعضهم الإجماع على خلافه، وهو غير جيد; لما روى أنس : "كان أصحاب رسول الله - عليه السلام - ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقومون إلى الصلاة" .

                                                [ ص: 412 ] قال ابن القطان رواه قاسم بن أصبغ ، عن محمد بن عبد السلام ، ثنا ابن بشار ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن قتادة وهو كما ترى صحيح من رواته .

                                                وعند البزار "يضعون جنوبهم فمنهم من يتوضأ ومنهم من لا يتوضأ" ولما ذكر الأثرم لأبي عبد الله هذا تبسم وقال: هذا لمن لا يضعون جنوبهم.

                                                وقال الطبري : فبان بهذا الحديث أن من استغرق في نومه مضطجعا أو جالسا توضأ.

                                                وزاد أحمد بن عبيد في "مسنده": من جهة يحيى بن سعيد ، عن قتادة ، عنه: "على عهد رسول الله عليه السلام" وعند البيهقي : "كان الصحابة يوقظون للصلاة وإني لأسمع غطيطا، ثم يصلون ولا يتوضئون" وفي آخره قال ابن المبارك : هذا عندنا وهم جلوس.

                                                قال البيهقي : وعلى هذا حمله عبد الرحمن بن مهدي والشافعي .

                                                وذكره أيضا الطبري في "التهذيب": عن هشيم ، ولكن يعارضه ما رواه أبو عيسى ": من حديث أبي خالد الدالاني ، عن قتادة ، عن أبي العالية عن ابن عباس : "أنه رأى رسول الله - عليه السلام - نام وهو ساجد حتى غط -أو نفخ- ثم قام فصلى، فقلت: يا رسول الله، إنك قد نمت؟! قال: إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعا; فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" .

                                                قال أبو عيسى رواه ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية ، ولم يرفعه.

                                                [ ص: 413 ] وفي "مسند دعلج ": سمعت موسى بن هارون يقول: هذا حديث منكر، لا نعلم أحدا رواه إلا الدالاني

                                                ولفظه عند " البيهقي ": "لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا; حتى يضع جنبه; فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" . وقال: تفرد به على هذا الوجه الدالاني

                                                وقال أبو داود : قوله: "الوضوء على من نام مضطجعا" هو منكر.

                                                قال: وذكرته لأحمد بن حنبل ، فقال: ما للدالاني يدخل على أصحاب قتادة ، ورأيته لا يعبأ بهذا الحديث، زاد في "التفرد": لم يسمع قتادة هذا من أبي العالية ، ولم يجئ به إلا يزيد انتهى.

                                                وذكر الدارقطني له متابعا -مع قوله أيضا: تفرد به- وهو مقاتل بن سليمان ، ويعقوب بن عطاء ، فلا تفرد إذن على هذا، والله أعلم.

                                                وقال شعبة : إنما سمع قتادة من أبي العالية أربعة أحاديث ليس هذا منها.

                                                وقال البخاري : هذا لا شيء، ولا نعرف لأبي خالد سماعا من قتادة .

                                                وقال الدارقطني : تفرد به الدالاني ولا يصح.

                                                [ ص: 414 ] وقال البيهقي : أنكره على أبي خالد جميع الحفاظ. وقال ابن الحصار هذا منكر، وليس بمتصل الإسناد.

                                                وقال ابن المنذر : لا يثبت.

                                                وقال ابن أبي داود هذا الحديث معلول، لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا أربع أحاديث معروفة ليس هذا منها، وهذا مرسل من قتادة .

                                                وقال أبو عمر : حديث أبي خالد هذا عند أهل الحديث منكر.

                                                وفي كتاب البيهقي عن أبي هريرة "من استحق النوم فقد وجب عليه الوضوء، فسئل عن استحقاق النوم، فقال: هو أن يضع جنبه" قال البيهقي : وروي مرفوعا أيضا ولا يصح.

                                                ولفظه عند ابن عدي : "إذا وضع أحدكم جنبه فليتوضأ" .

                                                وقال الحربي هذا حديث منكر.

                                                وعند الدراقطني من حديث يعقوب بن عطاء -وهو ضعيف- عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "من نام جالسا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء" .

                                                وعند البيهقي مضعفا: عن حذيفة مرفوعا: "... حتى تضع جنبك".

                                                قال ابن حزم وبه قال داود إن النوم لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط، وهو قول روي عن عمر بن الخطاب وابن العباس ، ولم يصح عنهما، وعن ابن عمر وصح عنه، وصح عن النخعي ، وعطاء ، والليث ، والثوري ، والحسن بن حي

                                                [ ص: 415 ] الثاني: أن النوم ينقض الوضوء على كل حال ، وهو مذهب الحسن ، والمزني ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، وإسحاق بن راهويه .

                                                قال ابن المنذر : وهو قول غريب للشافعي ، قال: وبه أقول، قال: وروي معناه عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة .

                                                وقال ابن حزم النوم في ذاته حدث ينقض الوضوء، سواء قل أو كثر، قاعدا أو قائما، في صلاة أو غيرها، أو راكعا أو ساجدا، أو متكئا، أو مضطجعا، أيقن من حواليه أنه لم يحدث أو لم يوقنوا، برهان ذلك حديث صفوان .

                                                يعني المذكور عند ابن خزيمة في "صحيحه" وكذلك عند ابن حبان .

                                                وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين وإنما لم يخرجاه لتفرد عاصم به عن زر ، عن صفوان : "كان رسول الله - عليه السلام - يأمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم" انتهى كلامه.

                                                وفيه نظر; لأنا قد رأينا غير عاصم رواه عن زر ، وهو المنهال بن عمرو -فيما ذكره ابن السكن في كتاب "الحروف"- وحبيب بن أبي ثابت عند الطبراني .

                                                قال ابن حزم وهو قول أبي هريرة ، وأبي رافع ، وعروة ، وعطاء ، والحسن ، وابن المسيب ، وعكرمة ، ومحمد بن شهاب في آخرين.

                                                الثالث: كثير النوم ينقض وقليله لا ينقض بكل حال . قال ابن المنذر : وهو مذهب الزهري ، وربيعة ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد في إحدى الروايتين.

                                                [ ص: 416 ] وعند الترمذي : قال بعضهم: إذا نام حتى غلب على عقله وجب عليه الوضوء. وبه يقول إسحاق

                                                الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المصلين كالراكع، والساجد، والقائم، والقاعد، لا ينتقض وضوءه ، سواء كان في الصلاة أو لم يكن، فإن نام مضطجعا أو مستلقيا على قفاه انتقض، وهو قول أبي حنيفة ، وداود ، وقول غريب للشافعي ، وقاله أيضا حماد بن أبي سليمان ، وسفيان .

                                                قال ابن حزم احتجوا بحديث لا يثبت، رواه ابن عباس ، وقد ذكرناه.

                                                الخامس: لا ينقض إلا نوم الساجد ، روي عن أحمد .

                                                السادس: لا ينقض إلا نوم الراكع ، وهو قول عن أحمد ذكره ابن التين

                                                السابع: من نام ساجدا في مصلاه فليس عليه وضوء، فإن نام ساجدا في غير مصلاه توضأ ، فإن تعمد النوم ساجدا في الصلاة فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك .

                                                الثامن: لا ينقض النوم في الصلاة، وينقض خارج الصلاة ، وهو قول للشافعي .

                                                التاسع: إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينقض، سواء قل أو كثر ، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعي .

                                                وقال ابن العربي هذا كله في حقنا، فأما سيدنا رسول الله - عليه السلام - فمن خصائصه: ألا ينقض وضوءه بالنوم مضطجعا ولا غير مضطجع.




                                                الخدمات العلمية