الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5553 ص: وقال عيسى بن أبان: كان ما روي عن رسول الله -عليه السلام- من الحكم في المصراة بما في الآثار الأول في وقت ما كانت العقوبات في الذنوب تؤخذ بها الأموال، فمن ذلك ما روي عن رسول الله -عليه السلام- في الزكاة: "أنه من أدى طائعا فله أجرها، وإلا أخذناها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا -عز وجل-"، ومن ذلك ما روي عنه في حديث عمرو بن شعيب في سارق الثمرة التي لم تحرز: "أنه يضرب جلدات نكالا، ويغرم مثليها"، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب وطء الرجل جارية امرأته، فأغنانا ذلك عن إعادة ذكرها ها هنا.

                                                قال: فلما كان الحكم في أول الإسلام كان كذلك حتى نسخ الله -عز وجل- الربا فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال، وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها، وكان رسول الله -عليه السلام- نهى عن التصرية وروي عنه في ذلك.

                                                فذكر ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد ، قال: ثنا المسعودي ، عن جابر الجعفي ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن بيع المحفلات خلابة ولا تحل خلابة مسلم" . فكان من فعل ذلك وباع ما قد جعل بيعه إياه مخالفا لما أمر به رسول الله -عليه السلام-، وداخلا فيما نهى عنه، فكانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في الأيام الثلاثة للمشتري بصاع من تمر، ولعله يساوي آصعا كثيرة، ثم نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، وردت الأشياء إلى ما ذكرنا، فلما كان ذلك كذلك، ووجب رد المصراة بعينها، وقد زايلها اللبن؛ علمنا أن ذلك اللبن الذي أخذه المشتري منها قد كان بعضه في ضرعها في وقت وقوع البيع عليها فهو في حكم المبيع، وبعضه حدث في ضرعها في ملك المشتري بعد وقوع البيع عليها فذلك للمشتري، فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع إذ كان بعضه مما لم يملك ببيعه، ولم يمكن أن يجعل [ ص: 441 ] اللبن كله للمشتري إذ كان ملك بعضه من قبل البائع ببيعه إياه الشاة التي قد ردها عليه بالعيب، وقد كان ملكه له بجزء من الثمن الذي كان وقع به البيع، فلم يجز أن يرد الشاة بجميع الثمن ويكون ذلك اللبن سالما له بغير ثمن، فلما كان ذلك كذلك منع المشتري من ردها، ورجع على بائعه بنقصان عيبها.

                                                قال عيسى : ( -رحمه الله-: فهذا وجه حكم بيع المصراة.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا هو الوجه الثاني من وجوه النسخ التي ذكرناها، وهو الوجه الذي قاله عيسى بن أبان، وهو أيضا ظاهر، ولكن ملخصه أن حكم المصراة كان حين يؤخذ بالأموال في العقوبات كما في الزكاة إذا امتنع صاحبها عن أدائها كان يؤخذ منه جبرا، ويؤخذ معها نصف ماله، وكذا سارق الثمرة التي لم تحرز، كان يضرب جلدات عقوبة، ويغرم مثلي ما أخذه، وكذا الغال كان يحرق رحله، فلما نسخت هذه الأشياء بقوله تعالى: فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ونزلت آية تحريم الربا؛ صار الحكم أن يؤخذ في الأموال مثلها، إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت لا مثل لها، ثم في حكم المصراة التمر ليس من جنس اللبن، ومتلف الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته كما ذكرنا، فإذا كان كذلك دل على أن هذا الحكم قد كان ثم نسخ، وأيضا فإن في دفع التمر لأجل اللبن ربا؛ لأنه بيع الطعام بالطعام متفاضلا، وقد قال -عليه السلام-: "الطعام بالطعام ربا إلا هاء وهاء" فإذا تقرر ذلك قلنا: إن المشتري يمنع من رد المصراة ولكن يرجع على بائعها بنقصان العيب؛ لأن السلامة في البيع مطلوبة المشتري فكانت شرطا في العقد دلالة، فإذا فاتت يثبت له خيار الرجوع بنقصان العيب، وإنما يمتنع رجوعه بالمصراة بجميع الثمن للمعنى الذي ذكره الطحاوي عن عيسى بن أبان، وهو قوله: "فلما لم يكن رد اللبن بكماله على البائع ... " إلى آخره، وهو ظاهر.

                                                ثم الذي روي عن النبي -عليه السلام- في الزكاة.

                                                [ ص: 442 ] وأخرجه أبو داود : نا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا بهز بن حكيم .

                                                ونا محمد بن العلاء، أنا أبو أسامة ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله -عليه السلام- قال: "في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا -قال ابن العلاء: مؤتجرا بها- فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة عن عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء".

                                                وأخرجه النسائي أيضا.

                                                قوله: "شطر ماله" أي نصف ماله.

                                                قوله: "عزمة" منصوب بفعل محذوف، تقديره: عزم الله علينا عزمة، والعزمة الحق والواجب، وعزمة الله حقوقه وواجباته.

                                                قوله: "ليس لآل محمد منها شيء" تأكيد لقوله: "عزمة من عزمات ربنا" والمعنى: إن هذا حق وفرض من فرائض الله تعالى وليس لآل محمد من هذا الفرض شيء أي نصيب حتى يتركوا ما ينالهم.

                                                وفيه دليل على أن مانع الزكاة تؤخذ منه جبرا، ويؤخذ أيضا شطر ماله عقوبة عليه لامتناعه، ولكن كان هذا في أول الإسلام ثم نسخ.

                                                واستدل الشافعي على نسخه بحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- فيما أفسدت ناقته، فلم ينقل عن النبي -عليه السلام- في تلك القضية أن ضعف الغرامة، بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط.

                                                وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ، عن أسد بن موسى ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي ، عن جابر بن يزيد الجعفي -فيه مقال كثير- عن [ ص: 443 ] أبي الضحى مسلم بن صبيح الكوفي العطار ، عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه" : من حديث المسعودي ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بيع المحفلات خلابة لا تحل خلابة المسلم". وقال البيهقي: هذا جاء بإسناد صحيح عن ابن مسعود قوله: ثم أخرجه من حديث الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود قال: قال عبد الله: "إياكم والمحفلات فإنها خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم".

                                                قوله: "أشهد على الصادق المصدوق" أراد به النبي -عليه السلام- فإنه هو الصادق في أقواله، المصدوق في نفسه من جهة غيره.

                                                و"المحفلات" جمع محفلة -بضم الميم وتشديد الفاء- وهي الشاة أو البقرة أو الناقة لا يحلبها صاحبها أياما حتى يجتمع لبنها في ضرعها، فإذا احتلبها المشتري حسبها غزيرة فزاد في ثمنها، ثم يظهر له بعد ذلك نقص لبنها عن أيام تحفيلها، سميت محفلة لأن اللبن حفل في ضرعها، أي جمع.

                                                قوله: "خلابة" بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام، وهي الخداع والتغرير، وقال الجوهري: الخلابة: الخديعة باللسان، تقول منه خلبه يخلبه بالضم، واختلبه مثله، وفي المثل: إذا لم تغلب فاخلب، أي: فاخدع. وفيه: دلالة على أن التصرية والتحفيل مكروه منهي عنها، وأن بائع المحفلات مخالف ما أمر به رسول الله -عليه السلام- وداخل فيما نهى عنه، فلأجل هذا كانت عقوبته في ذلك أن يجعل اللبن المحلوب في هذه الأيام كانت تساوي جملة من الصيعان، فكانت فيه عقوبة للبائع بالمال، ولكن لما نسخت العقوبات في الأموال بالمعاصي، ردت إلى ما ذكرنا من أن الحكم استقر على أن يؤخذ في الأموال مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت لا مثل لها، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية