الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5576 ص: قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار، فزعموا أن الثمار لا يجوز بيعها في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالقوم هؤلاء: الثوري وابن أبي ليلى والشافعي ومالكا وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يجوز بيع الثمار في رءوس النخل حتى تحمر أو تصفر.

                                                وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: وإذا وقع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط الجد فلا خلاف في جوازه، وإن شرط التبقية فلا خلاف في منعه إلا ما روي عن يزيد بن أبي حبيب في العرية، وإن أطلق البيع فالمشهور عن مالك منعه، وبه قال الشافعي .

                                                وروى ابن القاسم عن مالك في البيوع الفاسدة من "المدونة": جوازه ويكون مقتضاه الجذ وبه قال أبو حنيفة، ولا يباع الزرع إذا أفرك ولا الفول إذا اخضر، ولا الحمص ولا الجلبان إلا بشرط القطع؛ لأن المقصود منه اليبس، وإنما يؤكل اليسير أخضر كما يؤكل البلح، وعلى هذا عندي حكم الجوز واللوز والفستق، فإن بيع الفول أو الحنطة أو العدس أو الحمص على الإطلاق قبل يبسه وبعد أن أفرك، فقال ابن عبد الحكم: يفسخ كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وروى يحيى عن ابن القاسم يفوت باليبس ويمضي.

                                                وقال مالك في "المدونة": أكرهه، فإذا وقع وفات فلا أرى أن يفسخ، قال أبو محمد: معناه يفوت بالقبض، وروى محمد عن مالك: إن ترك لم أفسخه، وظاهره أنه يمضي بنفس العقد وإذا كانت النخل في جهة واحدة، فبدا الصلاح [ ص: 468 ] في نخلة منها؛ جاز بيع ذلك الصنف كله، وكذلك إذا بدا صلاح نوع؛ جاز بيع سائر أنواع ذلك الجنس مما يقرب منه في بدو الصلاح، وإن لم يبد صلاح تلك الأنواع.

                                                وقال مالك: لا يجوز بيع التين بطيب الباكور منه حتى يطيب أول تين العصير، ويكون طيبه متتابعا.

                                                وقال ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يباع الحائط، وإن لم يره إذا أزهى ما حوله، وكان الزمن قد أمنت فيه العاهة -يعني بطلوع الثريا- وقال ابن القاسم: أحب إلي أن لا يبيعه حتى يزهي؛ لنهيه -عليه السلام- عن ذلك، ولا أراه حراما، وقال أيضا في "شرح الموطأ": ولا يباع جنس من الثمار ببدو صلاح جنس آخر، خلافا لليث بن سعد، وإذا بدا صلاح نخلة في حائط جاز بيعه وبيع ما حواليه من الحوائط مما يكون كحاله في التبكير والتأخير خلافا لمطرف من أصحابنا وللشافعي، ولا خلاف أنه لا يجوز أن تفرد الحنطة في سنبلها بالشراء دون السنبل، وكذلك الجوز واللوز والباقلاء لا يجوز أن يفرد بالبيع دون قشره على الجزاف ما دام فيه، وأما شراء السنبل إذا يبس ولم ينقعه الماء فجائز، وكذلك الجوز والباقلاء، وقال الشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك.

                                                وقال مالك: الأمر عندنا في بيع البطيخ والقثاء والخربز والجزر أن بيعه إذا بدا صلاحه حلال جائز، ثم يكون للمشتري ما نبت حتى ينقطع ثمره ويهلك، وليس في ذلك وقت يوقت؛ وذلك أن وقته معروف عند الناس، وربما دخلته العاهة فقطعت ثمرته قبل أن يأتي ذلك الوقت، فإذا دخلته العاهة بجائحة تبلغ الثلث فصاعدا كان ذلك موضوعا عن الذي ابتاعه.

                                                ثم قال ابن زرقون: هذا قول مالك وأصحابه، وقال الشافعي والكوفيون وأحمد وإسحاق: لا يجوز بيع شيء من ذلك إلا بطنا بعد بطن، ولا يجوز بيع ما لم يخلق، ولا بيع ما خلق ولم تقدر على قبضه في حين البيع، ولا بيع ما خلق وقدر [ ص: 469 ] عليه إذا لم ينظر إليه قبل العقد، وكذلك بيع كل مغيب في الأرض مثل الجزر والبصل.

                                                وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: ما يباع من هذا فعلى ثلاثة أضرب:

                                                ضرب تتميز بطونه ولا تتصل كشجر التين والنخيل والورد والياسمين والتفاح والرمان والجوز؛ فهذا لا يباع ما لم يظهر من بطونه بظهور ما ظهر منها، وبدا صلاحه، وحكم كل بطن منها مختص به.

                                                وضرب تتميز بطونه ويتصل كالقصيل والقصب والقرط بإطلاق العقد في هذا يتناول ما ظهر منه دون ما لم يظهر، ويكون خلفته لمن له أصله لأنه لم يبعه أصله، ولذلك لا يجوز له تبقيته إلى أن يبدو صلاحه، فإن شرط المبتاع خلفته فروى محمد عن أشهب عن مالك فيها روايتين:

                                                إحداهما: أنه يجوز إذا كان لا يختلف وإن كان يختلف فلا أحب اشتراطها.

                                                والثانية: أنه قال: ما هذا عندي بحسن؛ لأنها مختلفة.

                                                وضرب لا تتميز بطونه ولكنه يتصل فيتقدر بالزمان كالمياه وألبان الغنم، وأما الموز فقال محمد بن سلمة يباع سنين كألبان الغنم يباع إذا ولدت شهرا أو شهرين، وأما الجميز فقال محمد عن مالك: إن كان نباته متصلا فهو مثل المقاتي، وإن كان منفصلا فلا خير فيه والسدر كذلك.

                                                وفي "شرح الموطأ" وفي نهيه -عليه السلام- عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها دليل على جواز بيعها بعد ذلك في رءوس الأشجار وإن لم تصرم. وعلى ذلك جماعة العلماء، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة: لا يجوز بيع الثمرة في رءوس الشجر قبل أن تصرم.

                                                وفي "المحلى" لابن حزم: فإذا سنبل الزرع لا يحل بيعه أصلا على القطع ولا على الترك إلا حتى يشتد، فإذا اشتد حل بيعه حينئذ، وروي ذلك عن [ ص: 470 ] الحسن وابن سيرين وعكرمة أيضا، قال: ومنع أبو حنيفة ومالك والشافعي من بيع القصيل حتى يصير حبا يابسا.

                                                وقال سفيان الثوري وابن أبي ليلى: لا يجوز بيع القصيل لا على القطع ولا على الترك، واختلفوا إن ترك الزرع فزاد، فقال مالك: يفسخ البيع جملة.

                                                وقال أبو حنيفة: للمشتري المقدار الذي اشترى ويتصدق بالزيادة، وروي عنه أنه رجع فقال: للمشتري المقدار الذي اشترى، وأما الزيادة فللبائع.

                                                وقال الشافعي: البائع مخير بين أن يدع له الزيادة فيجوز البيع والهبة معا أو يفسخ البيع. وقال أبو سليمان: الزيادة للمشتري مع ما اشترى.

                                                وقال ابن حزم أيضا: ويجوز بيع ما ظهر من المقاثي وإن كان صغيرا جدا؛ لأنه يؤكل، ولا يحل بيع ما لم يظهر بعد من المقاثي والياسمين والموز وغير ذلك، ولا جزة ثانية من القصيل؛ لأن كل ذلك بيع ما لم يخلق، ولعله لا يخلق، وإن خلق فلا يدري أحد غير الله ما كميته ولا ما صفاته؛ فهو حرام بكل وجه، وبيع غرر وأكل مال بالباطل.

                                                وأجاز مالك كل ذلك، وما نعلم له في تخصيص هذه الأشياء سلفا ولا أحدا قاله غيره قبله، ولا حجة، واحتج بعضهم باستئجار الطير، وهذا تحريف لكلام الله تعالى عن مواضعه، وأين الاستئجار من البيع، ثم أين اللبن المرتضع من القثاء والياسمين، وهم يحرمون بيع لبن شاة قبل حلبه، ولا يقيسونه على الطير، ثم يقيسون عليه بيع القثاء والموز والياسمين قبل أن يخلق.

                                                ومن طريق سعيد بن منصور: ثنا هشيم، أنا يونس بن عبيد ، عن الحسن: "أنه كره بيع الرطب جزتين".

                                                ومن طريق ابن أبي شيبة: نا شريك ، عن المغيرة، عن إبراهيم النخعي والشعبي، قالا جميعا: "لا بأس ببيع الرطاب جزة جزة".

                                                ومن طريق وكيع ، عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة قال: "سألت عطاء عن بيع الرطبة جزتين، فقال: لا يصلح إلا جزة".

                                                [ ص: 471 ] ومن طريق وكيع عن محمد بن مسلم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "أنه كره بيع القصب والحناء إلا جزة، وكره بيع الخيار والخربز إلا جنية".

                                                ومن طريق وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن ابن أشوع والقاسم: "أنهما كرها بيع الرطاب إلا جزة". وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي سليمان وغيرهم.

                                                وقال الشيخ محي الدين: في "الروضة" : فإذا باع ثمرة لا كمام لها كالتين والعنب والكمثرى جاز، سواء باعها على الشجرة أو على الأرض، ولو باع الشعير أو السلت مع سنبله جاز بعد الحصاد وقبله؛ لأن حباته ظاهرة، ولو كان للثمر أو الحب كمام لا يزال إلا عند الأكل كالرمان والعلس فكمثل، وأما ما له كمامان يزال أحدهما ويبقى الآخر إلى وقت الأكل كالجوز واللوز والرانج فيجوز بيعه في القشر الأعلى ما دام رطبا وبيع الباقلاء في القشر الأعلى فيه على هذا الخلاف، وادعى إمام الحرمين أن الظاهر فيه الصحة؛ لأن الشافعي أمر أن يشترى له الباقلاء الرطب.

                                                وقال النووي: المنصوص في "الأم": أنه لا يصح بيعه، وقال صاحب "التهذيب" وغيره: هو الأصح. وقطع به صاحب "التنبيه" هذا إذا كان الجوز واللوز والباقلاء رطبا، فإن بقي في قشره الأعلى فيبس؛ لم يجز بيعه وجها واحدا، وقيل: يصح. ويصح بيع طلع النخل مع قشره في الأصح، وأما ما لا يرى حبه في سنبله كالحنطة والعدس والسمسم فما دام في سنبلة لا يجوز بيعه مفردا عن سنبله قطعا، ولا معه على الجديد الأظهر، كبيع تراب الصاغة، وكبيع الحنطة في تبنها، فإنه لا يصح قطعا.

                                                وفي الأرز طريقان: المذهب أنه كالشعير فيصح بيعه في سنبله، وقيل: كالحنطة.

                                                [ ص: 472 ] ولا يصح بيع الجزر والثوم والبصل والفجل والسلعق في الأرض، ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القطع، ويجوز بيع القنبيط في الأرض لظهوره، وكذا نوع من السلجم يكون ظاهرا.

                                                ويجوز بيع اللوز في القشر الأعلى قبل انعقاد الأسفل.

                                                وفي "الحاوي" في فقه أحمد : ويجوز بيع الزرع المسند في سنبله سواء كان الحب ظاهرا كالشعير أو في عصفره كالحنطة، ويجوز بيع الباقلاء والجوز واللوز والفستق والبندق في قشرته، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية