الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5128 5129 5130 ص: وقد روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على ذلك.

                                                حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، قال: أخبرني يحيى بن أيوب ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك، أن رسول الله -عليه السلام- قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم". .

                                                فدل ما ذكر في هذا المعنى الذي يحرم به دماء الكفار ويصيرون به مسلمين؛ لأن ذلك هو ترك ملل الكفر كلها وجحدها، والمعنى الأول من توحيد الله - عز وجل - خاصة هو المعنى الذي يكف به عن القتال حتى يعلم ما أراد به قائله؟ الإسلام أو غيره، حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد، فلا يكون الكافر مسلما محكوما له وعليه بحكم الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويجحد كل دين سوى

                                                [ ص: 192 ] الإسلام ويتخلى عنه، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما حدثنا حسين بن نصر ، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا مروان بن معاوية ، قال: ثنا أبو مالك سعد بن طارق بن أشيم ، عن أبيه ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ويتركوا ما يعبدون من دون الله، فإذا فعلوا ذلك حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا عبد الله بن بكر ، قال: ثنا بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال: "قلت: يا رسول الله، ما آية الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين إلى المسلمين".

                                                فلما كان جواب رسول الله -عليه السلام- لمعاوية بن حيدة ، لما سأله عن آية الإسلام أن يقول: "أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين"، وكان التخلي هو ترك كل الأديان إلى الله - عز وجل -، ثبت بذلك أن من لم يتخل مما سوى الإسلام لم يعلم بذلك دخوله في الإسلام.

                                                وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، - رحمهم الله -.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن أنس بن مالك ما يدل على ما ذكرنا من أن الإسلام لا يكون إلا بالمعاني التي يدل على الدخول في الإسلام وترك سائر الملل؛ لأنه صرح في حديثه أن القتال لا يكف إلا عمن يأتي بالشهادتين، ويصلي صلاة المسلمين، ويستقبل قبلتهم، ويأكل ذبيحتهم، فهذا لا يكون إلا إذا تبرأ من سائر الملل سوى ملة الإسلام.

                                                ودل هذا أيضا على أن المراد من الحديث الأول الذي فيه الكف عن قتال من قال: لا إله إلا الله لا غير من المشركين: هو أن يترك قتاله إلى أن يعلم ما أراد به هذا القائل من قوله هذا، أراد به الإسلام أو غيره؟ فبهذا يحصل التوفيق بين أحاديث هذا الباب ولا تتضاد معانيها، فإذا كان الأمر كذلك فلا يحكم بإسلام الكافر حتى يتلفظ بالشهادتين ويجحد كل دين سوى دين الإسلام على ما صرح به في حديث طارق بن أشيم ومعاوية بن حيدة -رضي الله عنهما-.

                                                [ ص: 193 ] ثم إنه أخرج حديث أنس بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، قال: ثنا عبد الله بن المبارك ، عن حميد ، عن أنس، قال: قال رسول الله -عليه السلام-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا؛ حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين".

                                                وأخرجه الترمذي في كتاب "الإيمان": عن سعيد بن يعقوب بإسناده.

                                                وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

                                                وأخرجه النسائي في "المحاربة": عن هارون بن محمد بن بكار بن بلال ، عن محمد بن عيسى بن سميع ، عن حميد نحوه.

                                                وأخرجه البخاري تعليقا.

                                                فهذا يدل على أن الكافر لا يصح إسلامه إلا أن يتلفظ بالشهادتين ويتبرأ عن كل دين سوى دين الإسلام؛ لأن صلاته مع المسلمين واستقباله القبلة وأكله ذبيحة المسلمين يدل على أنه قد ترك كل الملل وجحدها سوى ملة الإسلام، فعن هذا قال أصحابنا: إن الكافر إذا صلى مع الجماعة يحكم بإسلامه، وقد ذكرناه فيما مضى.

                                                وأخرج حديث طارق بن أشيم: عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور، فيه مقال، فعن النسائي: ليس بثقة. ولكن الجمهور وثقوه، وروى له الجماعة غير النسائي، وروى له مسلم في مقدمة كتابه.

                                                عن مروان بن معاوية بن الحارث الفزاري الكوفي روى له الجماعة، عن أبي مالك [ ص: 194 ] سعد بن طارق الأشجعي الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدا، عن أبيه طارق بن أشيم بن مسعود الأشجعي الكوفي الصحابي -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير": نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، نا محمد بن أبي بكر المقدمي، نا فضيل بن سليمان ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن أبيه، أنه سمع رسول الله -عليه السلام- يقول: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم الله ماله ودمه، وحسابه على الله".

                                                وفيه دلالة صريحة على أن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله، لا يحكم بإسلامه ولا يصح إسلامه حتى يكفر بما يعبد من دون الله، وهذا هو المراد من التبرؤ عن سائر الأديان سوى دين الإسلام.

                                                وأخرج حديث معاوية بن حيدة بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري ، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري أبي عبد الملك البصري ، عن أبيه حكيم بن معاوية القشيري البصري ، عن جده معاوية بن حيدة بن معاوية القشيري الصحابي .

                                                وأخرجه الطبراني مطولا: نا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه، عن جده قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: والله ما جئتك حتى حلفت بعدد أصابعي هذه أن لا أتبعك ولا أتبع دينك، وإني أتيت امرأ لا أعقل شيئا إلا ما علمني الله - عز وجل - ورسوله، وإني أسألك بالله بما بعثك إلينا ربك؟ قال: اجلس، ثم قال: بالإسلام، فقلت: وما آية الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتفارق الشرك، وأن كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران، لا يقبل الله من مشرك أشرك من بعد إسلامه عملا وإن ربي داعي وسائلي: هل بلغت عباده؟ فليبلغ

                                                [ ص: 195 ] شاهدكم غائبكم وإنكم تدعون مفدم على أفواهكم بالفدام، فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكفه. قلت: يا رسول الله وهذا ديننا؟ قال: نعم، فإنما تحشرون على وجوهكم وعلى أقدامكم وركبانا".


                                                وأخرجه ابن ماجه مختصرا: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا أبو أسامة ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقبل الله من مشرك أشرك بعدما أسلم عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين".

                                                [قوله: "ما آية الإسلام؟" أي: ما علامته.

                                                قوله: "وتخليت" من التخلي وهو التفرغ، من الخلو، والمراد: التبرؤ من الشرك وترك كل الأديان سوى دين الإسلام، وعقد القلب على الإيمان.

                                                ...




                                                الخدمات العلمية