الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5196 ص: وكان من الحجة لهم فيما احتج به عليهم أهل المقالة الأولى من الآثار التي رويناها: أن قول خالد بن الوليد وعوف بن مالك -رضي الله عنهما-: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسلب للقاتل" فقد يجوز أن يكون ذلك لقول كان قد تقدم منه قبل ذلك جعل به سلب كل مقتول لمن قتله، وكذلك ما ذكر فيه من هذه الآثار التي جعل النبي -عليه السلام- السلب للقاتل، فقد يجوز أن يكون لهذا المعنى أيضا.

                                                ومما يدل أن السلب لا يجب للقاتل:

                                                ما حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ، قال: ثنا يوسف بن [ ص: 260 ] الماجشون، قال: حدثني صالح بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف: " ، إني لقائم يوم بدر بين غلامين حديثة أسنانهما، تمنيت لو أني بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، أتعرف أبا جهل؟ ؟ فقلت: وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله -عليه السلام-، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فعجبت لذلك، وغمزني الآخر فقال مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان! هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه فضرباه بسيفهما حتى قتلاه، ثم أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: أمسحتما بسيفيكما؟ قالا: لا، قال: في النظر في السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح" . والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح. ،

                                                والآخر: معاذ بن عفراء. .

                                                أفلا ترى أن رسول الله -عليه السلام- قال في هذا الحديث: "إنكما قتلتماه" ثم قضى بالسلب لأحدهما دون الآخر؟!

                                                ففي هذا دليل على أن السلب لو كان واجبا للقاتل بقتله إياه لكان قد وجب سلبه لهما، ولم يكن النبي -عليه السلام- ينتزعه من أحدهما فيدفعه إلى الآخر، ألا ترى أن الإمام لو قال: من قتل قتيلا فله سلبه فقتل رجلان قتيلا أن سلبه لهما نصفان؟ وأنه ليس للإمام أن يحرمه أحدهما ويدفعه إلى الآخر؛ لأن كل واحد منهما له فيه من الحق مثل ما لصاحبه وهما أولى به من الإمام، فلما كان للنبي -عليه السلام- في سلب أبي جهل أن يجعله لأحد قاتليه دون الآخر؛ دل ذلك أنه كان أولى به منهما؛ لأنه لم يكن قال يومئذ: من قتل قتيلا فله سلبه. .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية في الذي احتج به عليهم أهل المقالة الأولى من الأحاديث المذكورة، وأراد بذلك: الجواب عنها.

                                                [ ص: 261 ] تقريره: أن الاستدلال بالأحاديث المذكورة في كون السلب للقاتل على كل حال لا يتم؛ لأنه قد يجوز أن يكون كون السلب للقاتل في الأحاديث المذكورة؛ لأجل قول قد كان تقدم من النبي -عليه السلام- بأن كان قد جعل سلب كل قتيل لمن قتله فحينئذ لا يكون السلب للقاتل إلا بقول الإمام: "من قتل قتيلا فله سلبه" ولم يكن السلب واجبا للقاتل بقتله إياه، والدليل على ذلك: حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-، فإن رسول الله -عليه السلام- قد قال فيه للذين قتلا أبا جهل لعنه الله: "إنكما قتلتماه" ثم حكم بالسلب لأحدهما دون الآخر فدل ذلك أن السلب لم يجب للقاتل بسبب قتله؛ إذ لو كان كذلك لكان رسول الله -عليه السلام- حكم بسلب أبي جهل بينهما، فلما جعله لأحدهما دون الآخر دل ذلك أنه -عليه السلام- لم يكن قال يومئذ: من قتل قتيلا فله سلبه.

                                                وإسناد هذا الحديث صحيح. وقد ذكره الطحاوي بعينه في أول الباب، غير أن هناك: عن إبراهيم بن أبي داود ، عن سعيد بن سليمان الواسطي .

                                                وها هنا عن إبراهيم بن أبي داود ، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري وإبراهيم بن حمزة هذا روى عنه البخاري في "صحيحه" وأبو داود في "سننه".

                                                والحديث أخرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه في أول الباب.

                                                قوله: "إني لقائم""اللام" فيه للتأكيد؛ فلهذا جاءت مفتوحة.

                                                قوله: "تمنيت لو أني بين أضلع منهما" أي: بين أشد وأقوى من الرجلين اللذين كنت بينهما، وأضلع: أفعل التفصيل من الضلاعة وهي القوة، يقال: اضطلع بحمله: أي قوي عليه ونهض به.

                                                قوله: "لا يفارق سوادي سواده" أي: شخصي شخصه، وإنما سمي الشخص سوادا؛ لأنه يرى من بعيد أسود.

                                                [ ص: 262 ] قوله: "فلم أنشب" أي: فلم ألبث، يقال: نشب بعضهم في بعض: أي دخل وتعلق، ونشب في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص له منه، ولم ينشب أن فعل كذا: أي لم يلبث، وحقيقته: لم يتعلق بشيء غيره ولا بسواه.




                                                الخدمات العلمية