الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6679 6680 6681 6682 ص: ففي هذه الآثار المتواترة النهي عن لبس الحرير، فاحتمل أن تكون نسخت ما فيه الإباحة للبسه، واحتمل أن يكون ما فيه الإباحة هو الناسخ، فنظرنا في ذلك لنعلم الناسخ في ذلك من المنسوخ؛ فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن العلاف ، قال: ثنا ابن سواء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس: " ، أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي -عليه السلام- جبة من سندس، ، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير [ ص: 284 ] فلبسها فعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه".

                                                حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول: " خرج علينا رسول الله -عليه السلام- ذات يوم وعليه فروج حرير، فصلى فيه ثم انصرف فنزعه، وقال: لا ينبغي لباس هذه للمتقين". .

                                                حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب ... . فذكر بإسناد مثله.

                                                حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة أنه قال: "أهدي إلى رسول الله -عليه السلام- فروج حرير، فلبسه. . . ." ، ثم ذكر مثله.

                                                فدلت هذه الآثار أن لبس الحرير كان مباحا، وأن النهي عن لبسه كان بعد إباحته، فعلمنا أن ما جاء في النهي عن لبسه هو الناسخ لما جاء في إباحة لبسه، وهذا أيضا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وأكثر العلماء - رضي الله عنهم -.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي رواها عن الصحابة المذكورين، وهم خمسة عشر نفرا كما ذكرنا، ولا شك أن في هذه الأحاديث النهي عن لبس الحرير، ولكن يحتمل أن تكون هذه ناسخة لما فيه الإباحة للبس الحرير، ويحتمل أن يكون ما فيه الإباحة ناسخا لهذه الأحاديث، فلما نظرنا في هذا الباب لنعلم الناسخ من المنسوخ؛ وجدنا أحاديث أخرى دلت على أن الأحاديث التي فيها النهي عن لبسه هي الناسخة للأحاديث التي فيها الإباحة وهي حديث أنس وعقبة بن عامر - رضي الله عنهما -.

                                                أما حديث أنس؛ فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن محمد بن عبد الرحمن العلاف العنبري البصري ، عن محمد بن سواء بن عنبر السدوسي العنبري أبي الخطاب البصري المكفوف ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس - رضي الله عنه -.

                                                [ ص: 285 ] وأخرجه مسلم: ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سالم بن نوح، قال: ثنا عمر ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك: "أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى رسول الله -عليه السلام- جبة من سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: والذي نفس محمد بيده، إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا".

                                                وأخرج مسلم والبخاري هذا الحديث أيضا عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ولفظ مسلم: "أهديت لرسول -عليه السلام- حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: أتعجبون من لين هذه لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين".

                                                ولفظ البخاري: "أهدي للنبي -عليه السلام-. . . ." إلى آخره.

                                                قوله: "أكيدر" بضم الهمزة، هو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، كتب إليه النبي -عليه السلام- وأرسل سرية إليه مع خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.

                                                وذكر ابن منده وأبو نعيم أنه أسلم، وأهدى إلى النبي -عليه السلام- حلة سيراء.

                                                وقال ابن الأثير: وأما سرية خالد فصحيح، وإنما أهدى لرسول الله -عليه السلام- وصالحه ولم يسلم، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السير، ومن قال: إنه أسلم، فقد أخطأ خطأ ظاهرا، وكان أكيدر نصرانيا، ولما صالحه النبي -عليه السلام- عاد إلى حصنه وبقي فيه، ثم إن خالدا أسره لما حصر دومة أيام أبي بكر - رضي الله عنه - فقتله مشركا نصرانيا، وقد ذكر البلاذري: أن أكيدرا لما قدم على النبي -عليه السلام- مع خالد أسلم، وعاد إلى دومة، فلما مات النبي -عليه السلام- ارتد ومنع ما قبله، فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله. والله أعلم.

                                                [ ص: 286 ] وأما "دومة" فقد قال الجوهري: دومة الجندل اسم حصن، وأصحاب اللغة يقولونه بضم الدال، وأصحاب الحديث يفتحونها.

                                                قلت: دومة الجندل -بضم الدال- موضع فاصل بين الشام والعراق، على سبع مراحل من دمشق، وعلى ثلاث عشرة مرحلة عن المدينة.

                                                قوله: "من سندس" وهو ما رق من الديباج ورفع.

                                                قوله: "لمناديل سعد" كلام إضافي مبتدأ، وخبره "أحسن من هذه" واللام فيه للتأكيد وهي مفتوحة.

                                                وأما حديث عقبة بن عامر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن عبد الله بن لهيعة ، والليث بن سعد، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري ، عن عقبة بن عامر الجهني .

                                                وابن لهيعة ذكر متابعة.

                                                وأخرجه مسلم: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر أنه قال: "أهدي لرسول الله -عليه السلام- فروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره، ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين".

                                                الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي ، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد ، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري ، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر .

                                                وأخرجه البخاري: ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر أنه قال: "أهدي لرسول الله -عليه السلام- فروج حرير، [ ص: 287 ] فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له، ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين".

                                                الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن يوسف شيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ... . إلى آخره.

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا محمد بن عبيد ويزيد بن هارون ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبد الله اليزني ، عن عقبة بن عامر الجهني قال: "صلى بنا رسول الله -عليه السلام- المغرب وعليه فروج -يعني قباء- من حرير، فلما قضى صلاته، نزعه نزعا عنيفا، فقلت: يا رسول الله، صليت وهو عليك؟ قال: إن هذا لا ينبغي للمتقين".

                                                قوله: "فروج حرير" الفروج -بفتح الفاء وضم الراء المشددة بعدها واو ساكنة وفي آخره جيم- وهو القباء الذي شق من خلفه.



                                                الخدمات العلمية