الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5814 5815 ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام - مثل هذا الكلام في معنى غير هذا المعنى : حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود ، قالا : ثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم بن عبد الله : " أن عبد الله بن عمر كان يحدث أن عمر - رضي الله عنه - تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك ، فأراد أن يشتريه ، فأتى النبي -عليه السلام - فاستأمره في ذلك ، فقال له رسول الله -عليه السلام - : لا تعد في صدقتك " .

                                                فلذلك كان ابن عمر لا يرى أن يبتاع مالا جعله صدقة .

                                                حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : " حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أبتاعه منه فظننت أنه بائعه برخص ، فسألت عن ذلك رسول الله -عليه السلام - فقال : لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم واحد ، ولا تعد في صدقتك ، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه " .

                                                حدثنا المزني ، قال : ثنا الشافعي ، قال : ثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر - رضي الله عنه - : "أنه أبصر فرسا تباع في السوق وكان تصدق بها ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشتريه ، فقال : رسول الله لا تشتره ولا شيئا من نتاجه " .

                                                فمنع رسول الله -عليه السلام - عمر أن يبتاع ما كان تصدق به أو شيئا من نتاجه ، وجعله إن فعل ذلك كالكلب يعود في قيئه ، فلم يكن ذلك موجب حرمة ابتياع الصدقة على المتصدق بها ، ولكن ترك ذلك أفضل ، وكذلك ما ذكرنا مثل هذا إنما ذكرنا عن

                                                [ ص: 318 ] رسول الله -عليه السلام - في الرجوع في الهبة ليس على تحريم ذلك ، ولكنه لأن تركه أفضل .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي : قد روي عن رسول الله -عليه السلام - مثل قوله : "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه " أي معنى غير المعنى المذكور فيه ، وهو المعنى الذي كان ورد في العود في الصدقة ، وأورد هذا شاهدا لما قاله في قوله -عليه السلام - : "العائد في هبته . . . . " الحديث .

                                                من أن ذلك لا يدل على منع الواهب من الرجوع في هبته وإنما ذلك تنزيه أمته عن أمثال الكلاب ، وذلك أن منع رسول الله -عليه السلام - عمر بن الخطاب عن ابتياع ما كان تصدق به أو شيئا من نتاجه لم يكن دالا على حرمة ذلك ، ولكن ترك ذلك كان أفضل ، فكذلك ما روي عنه في الهبة .

                                                ثم إنه أخرج ما روي عن عمر - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح :

                                                الأول : عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي ، كلاهما عن أبي صالح عبد الله بن صالح ، وراق الليث وشيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ، عن عقيل -بضم العين - بن خالد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري . . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا ابن أبي عمر وعبد بن حميد -واللفظ لعبد - قال : أنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر : "أن عمر حمل على فرس في سبيل الله ، ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها ، فسأل النبي -عليه السلام - ، فقال رسول الله -عليه السلام - لا تعد في صدقتك يا عمر " .

                                                وأخرجه النسائي : عن محمد بن عبد الله بن المبارك ، عن حجين بن مثنى ، عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم . . . . إلى آخره نحوه .

                                                الثاني : عن يونس بن عبد الأعلى . . . . إلى آخره .

                                                [ ص: 319 ] وأخرجه مالك في "موطإه " .

                                                ومسلم : عن عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، نحوه .

                                                وابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد ، عن أبيه نحوه .

                                                الثالث : عن إسماعيل بن يحيى المزني ، عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، عن سفيان بن عيينة . . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول : أن من حمل على فرس في سبيل الله وغزا به فله أن يفعل فيه بعد ذلك ما يفعل في سائر أمواله : ألا ترى أن رسول الله -عليه السلام - لم ينكر على بائعه بيعه ، وأنكر على عمر شراءه ؟ ولهذا قال ابن عمر : "إذا بلغت به وادي القرى فشأنك به " ، وقال سعيد بن المسيب : إذا بلغ به رأس مغزاه فهو له .

                                                قال أبو عمر : اختلف [الفقهاء] في هذا المعنى ، فقال مالك : إذا أعطي فرسا في سبيل الله فقيل : هو لك في سبيل الله ، فله أن يبيعه ، وإذا قيل : هو في سبيل الله ركبه ورده .

                                                وقال الشافعي وأبو حنيفة : الفرس المحمول عليها في سبيل الله هي لمن يحمل عليها تمليك .

                                                [ ص: 320 ] قالوا : ولو قال له : إذا بلغت رأس مغزاك فهو لك ; كان تمليكا على مخاطرة فلم يجز .

                                                وقال الليث : من أعطي فرسا في سبيل الله لم يبعه حتى يبلغ مغزاه ، ثم يصنع به ما شاء ، إلا أن يكون حبسا فلا يباع .

                                                الثاني : أن كل من يجوز تصرفه في ماله وبيعه وشرائه فجائز له بيع ما شاء من ماله بما شاء من قليل الثمن وكثيره ، كان مما يتغابن الناس به أو لم يكن إذا كان ذلك ماله ولم يكن وكيلا ولا وصيا ; لقوله : "ولو أعطاكه بدرهم " .

                                                الثالث : اختلف الفقهاء في كراهة شراء الرجل لصدقة الفرض والتطوع ، فممن كره ذلك : مالك والشافعي وابن حي ، ولم يروا لأحد أن يشتري صدقته ، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخوا العقد ولم يردوا البيع ، ورأوا له التنزه عنها ، وكذلك قولهم في شراء الإنسان لما يخرجه في كفارة اليمين مثل الصدقة سواء .

                                                قال أبو عمر : إنما كرهوا بيعها لهذا الحديث ولم يفسخوه ; لأنه راجع إليه بغير ذلك المعنى .

                                                وقال أبو حنيفة والأوزاعي : لا بأس بمن أخرج زكاته وكفارة يمينه أن يشتريه بثمن يدفعه .

                                                وقال أبو جعفر الطحاوي : المصير إلى حديث عمر - رضي الله عنه - في الفرس أولى من قول من أباح شراء صدقته .

                                                وقال قتادة : البيع في ذلك فاسد مردود ; لأني لا أعلم القيء إلا حراما ، وكل العلماء يقولون : إن رجعت إليه بالميراث جاز ، والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية