الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5818 5819 5820 ص: فلم يكن في شيء من هذه الآثار ما يدلنا على أن للواهب أن يرجع في هبته بنقضه إياها حتى يأخذها من الموهوب له ويردها إلى ملكه المتقدم الذي أخرجها منه بالهبة ، فنظرنا هل نجد فيما روي عن أصحاب رسول الله -عليه السلام - في ذلك شيء ; فإذا إبراهيم بن مرزوق حدثنا ، قال : ثنا مكي بن إبراهيم ، قال : ثنا حنظلة ، عن سالم قال : سمعت ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : "من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب منها بما يرضي " .

                                                حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن داود بن الحصين ، عن أبي غطفان بن طريف المزني ، عن مروان بن الحكم ، أن عمر بن الخطاب قال : من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها ، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب ، فهو على هبته [يرجع] فيها إن لم يرض منها .

                                                فهذا عمر - رضي الله عنه - قد فرق بين الهبات والصدقات ، فجعل الصدقات لا يرجع فيها ، وجعل الهبات على ضربين :

                                                فضرب منها صلة للأرحام ، فرد ذلك إلى حكم الصدقات ومنع الواهب من الرجوع فيها .

                                                [ ص: 328 ] وضرب منها بخلاف ذلك ، فجعل للواهب أن يرجع فيها ما لم يرض منه .

                                                حدثنا صالح بن عبد الرحمن ، قال : ثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق ، قال : ثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : "من وهب هبة لذي رحم جازت ، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها ما لم يثب منها " .

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بهذه الآثار : الأحاديث التي ذكرها في هذا الباب من أوله إلى ها هنا ، وأشار بذلك أيضا إلى بيان حجج لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه ; لأنه لم يذكر لهم إلى الآن دليلا من الآثار ، وإنما ذكر عنهم ما أجابوا عن أحاديث أهل المقالة الأولى ، وما أولوه في ذلك .

                                                وأخرج لهم في ذلك عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ثلاث طرق صحاح :

                                                الأول : رجاله رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق .

                                                وأخرجه ابن حزم في "المحلى " : من طريق وكيع ، عن حنظلة -هو ابن أبي سفيان الجمحي - عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، قال : قال عمر - رضي الله عنه - : "الرجل أحق بهبته ما لم يرض منها " .

                                                الثاني : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك بن أنس ، عن داود بن الحصين ، عن أبي غطفان سعيد بن طريف المزني ، عن مروان بن عبد الحكم .

                                                وأخرجه مالك في "موطإه " .

                                                الثالث : عن صالح بن عبد الرحمن ، عن حجاج بن إبراهيم الأزرق ، عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد .

                                                [ ص: 329 ] وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : عن أبي معاوية ، عن الأعمش عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : "من وهب هبة لذي رحم فهي جائزة ، ومن وهب هبة لغير ذي رحم فهو أحق بها ما لم يثب منها " .

                                                قوله : "فهذا عمر - رضي الله عنه - قد فرق . . . . " إلى آخره . أشار بهذا إلى أن ما روي عن عمر بن الخطاب من هذا الحكم المفصل ; هو عين مذهب أهل المقالة الثانية ; فإن عندهم : لا رجوع في الصدقات ، ولم يخالفهم في هذا أحد ، وأما الهبات فإنها على ضربين .

                                                أحدهما : أن تكون لذوي الأرحام ; فلا رجوع فيها .

                                                والآخر : أن تكون للأجانب ، ففيه الرجوع ما لم يعوض . . والله أعلم .

                                                قوله : "حتى يثاب منها " أي حتى يعوض من هبته ، والثواب هو العوض ، ومنه ثواب الحسنات ، وبهذا الفرق المروي عن عمر - رضي الله عنه - يرد على ابن حزم في قوله : الحكم في العائد في صدقته والعائد في هبته سواء والمفرق بينهما مخطئ .




                                                الخدمات العلمية