الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5826 ص: وقد روي عن أبي الدرداء في ذلك أيضا ، ما حدثنا فهد ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن راشد بن سعد ، عن أبي الدرداء ، قال : "المواهب ثلاثة : رجل وهب من غير أن يستوهب فهي كسبيل الصدقة فليس له أن يرجع في صدقته ، ورجل استوهب فوهب فله الثواب ، فإن قبل على موهبته ثوابا فليس له إلا ذلك وله أن يرجع في هبته ما لم يثب ، ورجل وهب واشترط الثواب فهو دين على صاحبه في حياته وبعد موته " .

                                                فهذا أبو الدرداء قد جعل ما كان من الهبات مخرجه مخرج الصدقات في حكم الصدقات ، ومنع الواهب من الرجوع في صدقته ، وجعل ما كان منها بغير هذا الوجه ما لم يشترط ثواب مما يرجع فيه ما لم يثب الواهب عليه ، وجعل ما اشتراط فيه العوض في حكم البيع فجعل العوض لواهبه واجبا على الموهوب له في حياته وبعد وفاته ، فهكذا حكم الهبات عندنا .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن أبي الدرداء عويمر بن مالك - رضي الله عنه - في حكم الهبة على التفصيل ما حدثنا فهد بن سليمان ، عن أبي صالح عبد الله بن صالح شيخ البخاري ، عن معاوية بن صالح ، عن راشد بن سعد المقرائي الحمصي . . إلى آخره .

                                                وهذا إسناد صحيح .

                                                قوله : "المواهب " جمع موهبة بمعنى الهبة كالمكارم جمع مكرمة .

                                                قوله : "من غير أن يستوهب " على صيغة المجهول ، أي من غير أن يطلب منه الهبة .

                                                قوله : "ورجل استوهب " على صيغة المجهول أيضا أي طلبت منه الهبة .

                                                [ ص: 333 ] قوله : "ما لم يثب " أي ما لم يعوض .

                                                قوله : "فهكذا حكم الهبات عندنا " يعني على التفصيل المذكور ، لكن القسم الأول لا شيء على مذهب الحنفية ; فإن عندهم يرجع في هبته للأجنبي سواء استوهب أم لا ، اللهم إلا إذا كان الطحاوي قد ذهب في ذلك إلى أن الرجل إذا وهب من غير أن يستوهب فليس له الرجوع كما في الصدقة ، فتأمل ذلك فإنه موضع النظر .

                                                ثم قد رأيت أنه أخرج في ذلك عن غير عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وفضالة بن عبيد وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - .

                                                وروي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أيضا .

                                                أخرجه ابن حزم : من طريق حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن قال : "أول من رد الهبة عثمان بن عفان ، وأول من سأل البينة على أن غريمه مات ودينه عليه عثمان - رضي الله عنه - " .

                                                وروي أيضا عن جماعة من التابعين منهم : عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ، أخرج عنه عبد الله بن وهب ، عن عمر بن قيس ، عن عدي بن عدي الكندي : "كتب إلى عمر بن عبد العزيز : من وهب هبة فهو بالخيار حتى يثاب منها ما يرضى ، فإن نمت عند من وهبت له فليس لمن وهبها إلا هي بعينها ليس له من النماء شيء " .

                                                ومنهم : شريح القاضي ، أخرج عنه سعيد بن منصور : ثنا هشيم ، أنا منصور ويونس وابن عون ، كلهم عن ابن سيرين ، عن شريح قال : "من أعطى في صلة أو قرابة أو معروف أجزنا عطيته ، والجانب المستغزر يثاب على هبته أو ترد عليه " .

                                                [ ص: 334 ] ومنهم سعيد بن المسيب ، أخرج عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : ثنا يحيى بن يمان ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب قال : "من وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع ما لم يثب " .

                                                ومنهم إبراهيم النخعي : أخرج عنه سعيد بن منصور : أنا هشيم ، أنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : "من وهب هبة لذي رحم فليس له أن يرجع ، ومن وهب لغير ذي رحم فهو أحق بهبته ; فإن أثيب منها قليل أو كثير ; فليس له أن يرجع في هبته " .

                                                فإن قيل : هل في هذا الباب حديث مرفوع ؟

                                                قلت : نعم ، روي في ذلك عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وسمرة - رضي الله عنهم - .

                                                أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي فأخرجه أبو داود : ثنا سليمان بن داود المهري ، أنا أسامة بن زيد ، أن عمرو بن شعيب حدثه ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله -عليه السلام - قال : "مثل الذي استرد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه ، فإذا استرد الواهب ، فليتوقف فليعرف ما استرد ، ثم ليدفع إليه ما وهب " .

                                                وأما حديث أبي هريرة : فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه " : ثنا وكيع ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجنع ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -عليه السلام - : "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها " .

                                                وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي : من حديث حنظلة بن [ ص: 335 ] أبي سفيان ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي -عليه السلام - قال : "من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها " .

                                                وأما حديث سمرة : فكذلك أخرجه البيهقي : من حديث ابن المبارك ، عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي -عليه السلام - قال : "إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها " .

                                                فإن قيل : كل هذه الأحاديث معلولة :

                                                أما حديث عبد الله بن عمرو : فلأن خبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو صحته منقطعة .

                                                وأما حديث أبي هريرة : فلأن في سنده إبراهيم بن إسماعيل وهو ضعيف ، قاله ابن حزم ، وقال أيضا : عمرو بن دينار ليس له سماع من أبي هريرة ولا أدركه بعقله أصلا .

                                                وأما حديث عبد الله بن عمر : فقد قال البيهقي : هكذا رواه أحمد بن أبي غرزة وعلي بن سهل بن المغيرة ، عن عبيد الله بن موسى ، عن حنظلة ، وهو وهم ، والصواب ابن وهب سمعت حنظلة ، يقول : سمعت سالما يقول ، عن أبيه ، عن عمر قال : "من وهب هبة لوجه الله فذلك له ، ومن وهب هبة يريد ثوابها فإنه يرجع فيها إن لم يرض منها " .

                                                وأما حديث سمرة : فإن الحسن لم يسمع منه إلا ثلاثة أحاديث وهذا ليس منها .

                                                قلت : عمرو بن شعيب ثقة لا مراء فيه وروايته عن أبيه ليست مرسلة ولا منقطعة ; لأنها إما وجادة أو بعضها سماع وبعضها وجادة [وسماعه] من أبيه شعيب صحيح . وأما سماع شعيب عن عبد الله بن عمرو فلا يشك فيه ، قال البخاري وأبو داود وغير واحد : إنه سمع من جده عبد الله بن عمرو .

                                                [ ص: 336 ] وأما إبراهيم بن إسماعيل فإن البخاري استشهد به ، وابن ماجه احتج به .

                                                وأما عمرو بن دينار فقد ذكر عبد الغني والحافظ المزي وغيرهما : أنه سمع من أبي هريرة .

                                                وأما قول البيهقي : "هذا وهم " فليس بصواب ; لأن المرفوع رواته ثقات . كذا قال عبد الحق في "الأحكام " وصححه ابن حزم وأخرجه الحاكم في "المستدرك " عن إسحاق بن محمد ، عن ابن أبي غرزة ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين إلا أن يكون الحمل فيه على شيخنا وقد توبع رواته عليه .

                                                أخرجه الدارقطني : عن إسماعيل الصفار ، عن علي بن سهل ، عن عبيد الله بن موسى ، عن حنظلة .

                                                فلا حمل إذا على شيخ الحاكم ولا نسلم للبيهقي أنه وهم ، بل يحمل على أن لعبيد الله فيه إسنادين .

                                                وأما الحسن البصري فإنه سمع عن سمرة أحاديث كثيرة قاله البخاري واحتج بالحسن عن سمرة . وحديثه هذا أخرجه الحاكم في "مستدركه " وقال : صحيح على شرط البخاري .




                                                الخدمات العلمية