الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5844 5845 5846 ص: وقد فضل بعض أصحاب رسول الله -عليه السلام - بعض أولادهم على بعض في العطايا .

                                                فحدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي -عليه السلام - أنها قالت : "إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة ، فلما حضرته الوفاة قال : والله يا بنية ، ما من أحد من الناس أحب إلي غنى بعدي منك ، ولا أعز علي فقرا بعدي منك ، وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا ، فلو كنت جددته وأحرزته كان لك ، وإنما هو اليوم مال الوارث ، وإنما هما أخواك وأختاك ، فاقتسموه على كتاب الله تعالى ، فقالت عائشة : والله يا أبه لو كان كذا وكذا لتركته ، إنما هي أسماء فمن الأخرى ؟ فقال : ذو بطن بنت خارجة أراها جارية " .

                                                حدثنا فهد ، قال : ثنا عمر بن حفص بن غياث ، قال : ثنا أبي ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : ثنا مسروق قال : "كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قد أعطى عائشة نحلا ، فلما مرض قال لها : اجعليه في الميراث ، وذكر القبض في الهبة والصدقة " .

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو ، أخبره صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : " ، أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - فضل بني أم كلثوم بنحل قسمه بين ولده " .

                                                فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - قد أعطى عائشة دون سائر ولده ، ورأى ذلك جائزا ، ورأته هي كذلك ، ولم ينكره عليهما أحد من أصحاب رسول الله -عليه السلام - .

                                                [ ص: 359 ] وهذا عبد الرحمن بن عوف قد فضل أيضا بعض ولده فيما أعطاهم على بعض ، ولم ينكر ذلك عليه منكر ، فكيف يجوز لأحد أن يحمل فعل هؤلاء على خلاف قول النبي -عليه السلام - ، ولكن قول النبي -عليه السلام - عندنا فيما ذكرنا من ذلك إنما كان على الاستحباب كاستحبابه التسوية بين أهله في العطية وترك التفضيل لحرهم على مملوكهم ، ليس على أن ذلك مما لا يجوز غيره ، ولكن على استحبابه لذلك ، وغيره في الحكم جائز كجوازه .

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر هذين الأثرين عن أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - شاهدا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية من أن ما كان من قول النبي -عليه السلام - في حديث النعمان بن بشير إنما كان على الاستحباب لا الوجوب ، كما كان -عليه السلام - استحب التسوية بين أهله في إعطائه العطايا إياهم وترك التفضيل لحرهم على عبدهم ، ولم يكن ذلك على أن غيره لا يجوز فعله ، ولكن إنما كان على استحبابه لذلك تطييبا لقلوبهم ومراعاة لهم في رضاهم ، والدليل على ذلك : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قد أعطى عائشة ما أعطى دون سائر ولده ، ورأى ذلك جائزا ، وكذلك عائشة رأته جائزا ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولم ينكر عليهما أحد منهم ، فدل ذلك على الجواز ، ولو كان الأمر كما قاله أهل المقالة الأولى ، لكان يلزم خلاف أبي بكر لما قال -عليه السلام - ، وحاشاه من ذلك ، وكذلك عبد الرحمن بن عوف قد فضل بعض ولده فيما أعطاهم على بعض ، وكان ذلك أيضا بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهم أحد منهم ، فدل ذلك أيضا على الجواز .

                                                ثم إنه أخرج أثر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من طريقين صحيحين :

                                                الأول : رجاله كلهم رجال الصحيح ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير . . . . إلى آخره .

                                                [ ص: 360 ] وأخرجه مالك في "موطإه " .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه " : من حديث شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة ، أن عائشة قالت : "كان أبو بكر - رضي الله عنه - نحلني جداد عشرين وسقا من ماله ، فلما حضرته الوفاة جلس ناحيتي ، ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد : أي بنية إن أحب الناس إلي غنى بعدي لأنت ، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي ، فوددت والله لو أنك كنت جرنته وجددته ، ولكن إنما هو اليوم مال الوارث ، وإنما هو أخواك وأختاك ، فقلت : يا أبتاه هذه أسماء فمن الأخرى ؟ قال : ذو بطن ابنة خارجة -أراه جارية - فقلت : لو أعطيتني ما هو كذا إلى كذا لرددته إليك " .

                                                قال الشافعي - رضي الله عنه - : وفضل عمر - رضي الله عنه - عاصما بشيء ، وفضل ابن عوف ولد أم كلثوم .

                                                الطريق الثاني : عن فهد بن سليمان ، عن عمر بن حفص ، عن أبيه حفص بن غياث ، عن سليمان الأعمش ، عن شقيق بن سلمة ، عن مسروق بن الأجدع . . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه الشافعي في "مسنده " .

                                                وأخرج أثر عبد الرحمن بن عوف عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف : "أن عبد الرحمن . . . . إلى آخره " وهذا منقطع ; لأن صالح بن إبراهيم لم يدرك جده عبد الرحمن بن عوف .

                                                وأخرج عبد الله بن وهب في "مسنده " وقال : بلغني عن عمرو بن دينار : "أن عبد الرحمن بن عوف نحل ابنته من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أربعة آلاف درهم ، وله ولد من غيرها " .

                                                [ ص: 361 ] قلت : وهذا أيضا منقطع .

                                                قوله : "نحلها " أي أعطاها .

                                                قوله : "جاد عشرين وسقا " الجاد بالجيم وتشديد الدال بمعنى المجدودة ، والمعنى : أعطاها نخلا تجد منها ما يبلغ عشرين وسقا ، أي : تقطع .

                                                "والوسق " بفتح الواو : ستون صاعا ، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز ، وأربعمائة وثمانون رطلا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد .

                                                قوله : "بالغابة " أي في الغابة وهو موضع قريب من المدينة من عواليها ، وبها أموال لأهلها . "والغابة " : الأجمة ذات الشجر المتكاثف ; لأنها تغيب ما فيها ، وتجمع على غابات .

                                                قوله : "فلو كنت جددته " أي قطعته ، وفي رواية البيهقي : "أنك كنت جرنته " أي ضميته في الجرن وهو بيدر التمر ، ومادته : جيم وراء ونون .

                                                وقوله : "وإنما هما " الضمير يرجع إلى الوارث ، ولكنه إنما ثناه بالنظر إلى قوله : "أخواك " .

                                                قوله : "يا أبه " الهاء فيه للوقف والسكت .

                                                قوله : "ذو بطن " بالباء الموحدة والطاء المهملة وبالنون .




                                                الخدمات العلمية