الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5042 5043 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الكلام الذي حكاه أبو جحيفة في هذا الحديث عن علي - رضي الله عنه - لم يكن مفردا، ولو كان مفردا لاحتمل ما قالوا، ولكنه كان موصولا بغيره.

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا مسدد ، قال: ثنا يحيى ، عن ابن أبي عروبة ، قال: ثنا قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد قال: " انطلقت أنا والأشتر إلى علي ، - رضي الله عنه - فقلنا: هل عهد إليك رسول الله -عليه السلام- عهدا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما كان في كتابي هذا، فأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ومن أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". .

                                                فهذا هو حديث علي - رضي الله عنه - بتمامه، والذي فيه من نفي قتل المؤمن بالكافر هو قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فاستحال أن يكون معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى; لأنه لو كان معناه على ما ذكروا لكان ذلك لحنا ، من رسول الله -عليه السلام- ورسول الله -عليه السلام- أبعد الناس من ذلك، ولكان لا يقتل [ ص: 340 ] مؤمن بكافر ولا ذي عهد في عهده، فلما لم يكن لفظه كذلك، وإنما هو: ولا ذو عهد في عهده علمنا أن ذا العهد هو المعني بالقصاص; فصار ذلك كقوله: "لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر" . وقد علمنا أن ذا العهد كافر، فدل هذا أن الكافر الذي نسخ النبي -عليه السلام- أن يقتل به المؤمن في هذا الحديث هو الكافر الذي لا عهد له، فهذا مما لا اختلاف فيه بين المسلمين أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي، وأن ذا العهد الكافر الذي قد صارت له ذمة لا يقتل به أيضا، وقد نجد مثل هذا كثيرا في الكلام، قال الله -عز وجل-: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر فقدم وأخر، فكذلك قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" إنما مراده فيه -والله أعلم- لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، فقدم وأخر; فالكافر الذي منع - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل به المؤمن هو الكافر غير المعاهد.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن هذا الكلام -أعني قول علي رضي الله عنه - الذي حكاه عنه أبو جحيفة السوائي: "وأن لا يقتل مسلم بكافر" لم يكن مفردا يعني لم يكن كلاما مستقلا برأسه، وإنما كان معه كلام آخر، وهو الذي رواه قيس بن عباد والأشتر، فإن في روايتهما: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فهذا هو أصل الحديث وتمامه، وهذا الأولى على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى; لأن المعنى على أصل الحديث: "لا يقتل مؤمن بسبب قتل كافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده بسبب قتل كافر" ومن المعلوم أن ذا العهد كافر، فدل هذا أن الكافر الذي منع النبي -عليه السلام- أن يقتل به مؤمن -في الحديث المذكور- هو الكافر الذي لا عهد له، وهذا لا خلاف فيه لأحد أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي، ولا الكافر الذي له عهد يقتل به أيضا، فحاصل معنى الحديث -الذي رواه أبو جحيفة: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر.

                                                [ ص: 341 ] فإن قيل: كل واحد من الحديثين كلام مستقل مفيد فيعمل به، فما الحاجة إلى جعلهما واحدا حتى نحتاج إلى هذا التأويل؟

                                                قلت: قد ذكرنا لك أن أصل الحديث واحد، فبتقطيعه لا يزول المعنى الأصلي، ولئن سلمنا أن أصله ليس بواحد، وأن كل واحد حديث برأسه، ولكن الواجب حملهما على أنهما وردا معا; وذلك لأنه لم يثبت أن النبي -عليه السلام- قال ذلك في وقتين: مرة من غير ذكر ذي العهد، ومرة مع ذكر ذي العهد.

                                                وأيضا أن أصل هذا كان في خطبته -عليه السلام- يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل في الجاهلية، فقال -عليه السلام-: "ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" يعني -والله أعلم- الكافر الذي قتل في الجاهلية، وكان ذلك تفسيرا لقوله: "كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي" لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث، وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح مكة، وأنه إنما كان قبل بين النبي -عليه السلام- وبين المشركين عهود إلى مدد، لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه، وكان قوله -عليه السلام- يوم فتح مكة: "لا يقتل مؤمن بكافر" منصرفا إلى الكفار والمعاهدين; إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه، ويدل عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده" وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مدد; ولذلك قال: "ولا ذو عهد في عهده" كما قال تعالى: فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وقال: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وكان المشركون حينئذ على ضربين:

                                                أحدهما: أهل الحرب ومن لا عهد بينه وبين النبي -عليه السلام-.

                                                [ ص: 342 ] والآخر: أهل عهد إلى مدة، ولم يكن هناك أهل ذمة فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين، ولم يدخل فيه من لم يكن على أحد هذين الوضعين.

                                                وفحوى هذا الخبر ومضمونه على أن الحكم المذكور في نفي القصاص على الحربي المعاهد دون الذمي; وذلك أنه عطف عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده" ومعلوم أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لو انفرد عما قبله، فهو إذا مفتقر إلى ضمير، وضميره ما تقدم ذكره، ومعلوم أن الكافر الذي هو ذو العهد هو الحربي المستأمن فثبت أن مراده مقصور على الحربي، ولا يجوز أن يجعل الضمير: ولا يقتل ذو عهد في عهده من وجهين:

                                                الأول: أنه لما كان القتل المبدوء بذكره قتلا على وجه القصاص، وكان ذلك القتل بعينه سبيله أن يكون مضمرا في الثاني; لم يجز لنا إثبات الضمير قتلا مطلقا; إذا لم يتقدم على الخطاب ذكر قتل مطلق غير مقيد بصفة، وهو القتل على وجه القود، فوجب أن يكون هو المعني بقوله: "ذو عهد في عهده" فالكافر المذكور بدا ولو أضمرنا قتلا مطلقا كنا مثبتين لضمير لم يجر له ذكر في الخطاب، وهذا لا يجوز، وإذا ثبت ذلك وكان الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي، كان قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" في منزلة قوله: لا يقتل مؤمن بكافر حربي، فلم يثبت عن النبي -عليه السلام- نفي قتل المؤمن بالذمي.

                                                والوجه الآخر: أنه معلوم أن ذا العهد يحظر قتله ما دام في عهده، فلو حملنا قوله: "ولا ذو عهد في عهده" على أن لا يقتل ذو عهد في عهده لأخلينا اللفظ عن الفائدة، وحكم كلام النبي -عليه السلام- حمله على مقتضاه في الفائدة، ولا يجوز إلغاؤه ولا إسقاط حكمه.

                                                قوله: "فهذا هو" أشار به إلى ما رواه قيس بن عباد والأشتر .

                                                قوله: "وقد نجد مثل هذا كثيرا في الكلام" أراد به مثل ما ذكره في الحديث المذكور من التقديم والتأخير، وهو أن معنى قوله -عليه السلام-: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، [ ص: 343 ] وذلك كما في قوله تعالى: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن والمعنى: واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، فكما أن المعنى فيه على التقديم والتأخير، وهو أن المعنى يقتضي أن يكون قوله: واللائي لم يحضن عقيب قوله: واللائي يئسن ليقع قوله: فعدتهن ثلاثة أشهر جوابا عن الاثنين; لأن حكم اللائي يئسن وحكم اللائي لم يحضن سواء، وهو وجوب العدة على كل واحدة منهما بثلاثة أشهر؛ عوضا عن ثلاث حيض، فكذلك التقدير في قوله -عليه السلام-: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده": لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، فقدم وأخر، فدل أن الكافر الذي منع -عليه السلام- أن يقتل به المؤمن هو الكافر غير المعاهد. والله أعلم.

                                                ثم إنه أخرج حديث عباد بن قيس بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة السدوسي ، عن الحسن البصري ، عن قيس بن عباد -بضم العين وتخفيف الباء الموحدة- القيسي البصري، روى له الجماعة سوى الترمذي .

                                                والأشتر هو مالك بن الحارث النخعي، أدرك الجاهلية، وكان من شيعة علي - رضي الله عنه - قال العجلي: كوفي تابعي ثقة.

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا أحمد بن حنبل ومسدد، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، قال: نا سعيد بن أبي عروبة، قال: ثنا قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد قال: "انطلقت أنا والأشتر إلى علي - رضي الله عنه -...." إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه النسائي أيضا: عن أبي موسى ، عن يحيى. ... إلى آخره نحوه.

                                                [ ص: 344 ] قوله: "عهد إليك" أي أوصى إليك، كما جاء في حديث آخر: "عهد إلي النبي -عليه السلام-" أي أوصى.

                                                قوله: "من قراب سيفه" بكسر القاف، وهو غلافه.

                                                قوله: "تتكافأ" أي تتساوى دماؤهم في القصاص والديات، من الكفؤ وهو النظير والمساوي، ومنه الكفاءة في النكاح، وهو أن يكون الزوج مساويا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها، وغير ذلك.

                                                قوله: "يسعى بذمتهم أدناهم" أي إذا أعطى أحد الجيش العدو أمانا صار ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يخفروه، ولا أن ينقضوا عليه عهده، وقد أجاز عمر - رضي الله عنه - أمان عبد على جميع الجيش.

                                                قوله: "يد على من سواهم" أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل، بل يعاون بعضهم بعضا على جميع الأديان والملل، كأنه جعل أيديهم يدا واحدة، وفعلهم فعلا واحدا.

                                                قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" "الباء" فيه يجوز أن تكون للتعليل، والمعنى بسبب كافر، ويجوز أن تكون للعوض والمقابلة، كما في قولك: اشتريته بدرهم.

                                                قوله: "ولا ذو عهد في عهده" أي ولا ذو ذمة في ذمته، وقد قلنا: إن التقدير: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر، أي لا يقتل مسلم ولا كافر معاهد بكافر، فإن الكافر قد يكون معاهدا أو غير معاهد.

                                                قوله: "ومن أحدث حدثا" الحدث: الأمر المنكر الذي ليس معتادا ولا معروفا في السنة، قيل: الحدث هاهنا: الإثم، وقيل: هو عام في الجنايات والحدث في الدين.

                                                قوله: "أو آوى محدثا" بضم الميم وسكون الحاء، ويروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء: الرضا به والصبر عليه; فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكرها عليه; فقد آواه.

                                                [ ص: 345 ] واستفيد منه أحكام:

                                                فيه: أن المسلمين متساوون في الدماء، حتى إن الشريف يقاد بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة.

                                                فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن لا يقتل المسلم بالكافر; لأن دم الكافر لا يساوي دم المسلم.

                                                قلت: قوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" لا ينفي مكافأة دماء غير المؤمنين من أهل الذمة، والدليل على ذلك: أنه لم يمنع تكافؤ دماء الكفار حتى تقاد بعضهم لبعضهم إذا كانوا ذمة لنا، وكذلك لا يمنع تكافؤ دماء المسلمين وأهل الذمة.

                                                وفيه: أن أحدا من أهل العسكر إذا أمن أهل حصن أو أهل مدينة صح أمانه، سواء كان حرا أو حرة، ولا يصح أمان ذمي; لأنه منهم، إلا شاذا عن مالك: يصح، ولا أمان أسير ولا فاجر منهم; لأنهما مقهوران تحت أيديهم. وعن الشافعية وجه: يصح إذا لم يخف.

                                                وفيه: أن المؤمن لا يقتل بالحربي، وأن الذمي أيضا لا يقتل بالحربي.




                                                الخدمات العلمية