الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5070 ص: قال أبو جعفر : -رحمه الله-: فجعل رسول الله -عليه السلام- ما أصابته العجماء جبارا، والجبار هو الهدر، فنسخ ذلك ما تقدم مما في حديث حرام بن محيصة وإن كان منقطعا لا تقوم بمثله عند المحتج به علينا حجة; لأنه وإن كان الأوزاعي قد وصله، فإن مالكا والأثبات من أصحاب الزهري قد قطعوه، ومع ذلك فإن الحكم المذكور فيه مأخوذ من حكم سليمان النبي -عليه السلام- في الحرث إذ نفشت فيه الغنم، فحكم النبي -عليه السلام- بمثل ذلك الحكم حتى أحدث الله -عز وجل- له هذه الشريعة فنسخت ما قبلها.

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا جواب عن حديث حرام بن محيصة الذي احتجت به أهل المقالة الأولى، وهو على وجهين:

                                                الأول: أن هذا الحديث منقطع، وهؤلاء لا يحتجون بالمنقطع فكيف يحتجون به على أهل المقالة الثانية، وهذا غير صحيح.

                                                فإن قيل: قد أوصله الأوزاعي فصح أن يحتج به على الخصم، فأجاب عنه بقوله: وإن كان الأوزاعي قد وصله فإن مالك بن أنس والأثبات الثقات من أصحاب محمد بن مسلم الزهري قد رووه مقطوعا.

                                                [ ص: 408 ] قال أبو عمر: روى هذا الحديث جميع رواة "الموطأ" مرسلا، وكذلك رواه أصحاب ابن شهاب، إلا ابن عيينة فإنه رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب وحرام بن سعد بن محيصة، جمعهما جميعا في هذا الحديث ولم يقل ذلك غير ابن عيينة ، عن ابن شهاب فيما أعلم. والله أعلم.

                                                فإن قيل: مذهب أكثر المحدثين: أن الحديث إذا كان منقطعا من وجه متصلا من وجه آخر يكون حجة; لوجود الاتصال فيه بطريق واحد، والطريق الآخر الذي هو منقطع كأن ليس; لأن ذلك الطريق ساكت عن الراوي وحاله أصلا، وفي الطريق المتصل بيان له، ولا معارضة بين الساكت والناطق.

                                                قلت: ولئن سلمنا أنه حجة عند بعض، فليس هو بحجة عند الآخرين; لأن اعتبار الاتصال فيه يسقط بالانقطاع من وجه، فإذا كان كذلك فلا تقوم بمثله حجة عند الخصم.

                                                الوجه الثاني: أن هذا الحديث منسوخ بحديث جابر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - بيان ذلك: أن الحكم المذكور فيه قد أخذه -عليه السلام- من حكم سليمان النبي -عليه السلام-، وقد أخبر الله تعالى في القرآن بقوله: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية. قال ابن عباس: كان الحرث زرعا. وقال ابن مسعود: كان كرما قد نبت عناقيده; وذلك أنه دخل عليه رجلان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فلم تبق منه شيئا، فقال له داود -عليه السلام-: اذهب فإن الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرا على سليمان -عليه السلام- فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فأخبر داود -عليه السلام- بذلك فدعاه، فقال له: بحق النبوة كيف تقضي؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث سنة فيكون له نسلها ولبنها وصوفها [ ص: 409 ] ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أكل، دفع إلى أهله، وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال داود -عليه السلام-: القضاء على ما قضيت، وحكم بذلك.

                                                ثم لا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان -عليهما السلام- بما حكما منسوخ، وذلك لأن داود -عليه السلام- حكم بدفع الغنم إلى أهل الحرث، وحكم سليمان له بأصوافها وأولادها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم، وأنه لا يسلم أولادها وألبانها وأصوافها، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة النبي -عليه السلام-.

                                                ثم إنه حكم بمثل الحكم المذكور إلى أن أحدث الله -عز وجل- هذه الشريعة المطهرة، فنسخت ما قبلها.

                                                فإن قلت: قد تضمنت القضية معان منها: وجوب الضمان على صاحب الغنم. ومنها: تبقية ذلك الضمان، وإنما المنسوخ فيه ما يجب به الضمان، ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ.

                                                قلت: قد ثبت ذلك الضمان على لسان النبي -عليه السلام- بالخبر الذي تلقاه الناس بالقبول واستعملوه، وهو ما رواه أبو هريرة وجابر: "العجماء جبار" ولا خلاف في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانا أو مالا أنه لا ضمان على صاحبها; إذ لم يرسلها هو عليه.

                                                ولما كان هذا الخبر مستعملا عند الجميع، وكان عمومه ينفي ضمان ما يصيبه ليلا أو نهارا، ثبت بذلك نسخ ما ذكرنا من قصة داود وسليمان -عليهما السلام - ونسخ ما ذكرنا في حديث حرام بن محيصة من وجوب الضمان في الليل.

                                                ووجه آخر: أن الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه. فلما اتفق الجميع على نفي ما أتلفت الماشية نهارا وجب أن يكون ذلك حكمها ليلا.

                                                [ ص: 410 ] وجواب آخر: أنه يجوز أن يكون النبي -عليه السلام- إنما أوجب الضمان في حديث حرام بن محيصة؛ لأجل كون صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون المعلوم أن الذي يسوق ماشيته بالليل في الزرع والحوائط لا يخلو من نفش بعضها في زرع الناس وإن لم يعلم بذلك، فبين -عليه السلام- حكمها إذا أصابت ربها، ويكون الضمان حينئذ لسوقه وإرساله في الزرع وإن لم يعلم بذلك، وبين -عليه السلام- تساوي حكم العلم والجهل فيه. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية