الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4849 [ ص: 453 ] ص: فإن قال قائل: فلم لا كان ما فيه الرجم والجلد أولى مما فيه الرجم خاصة.

                                                قيل له: لدلالة قد دلت على نسخ الجلد مع الرجم، وهو أنا رأينا أصل ما كان على الزاني قبل أن يفرق بين حكمه إذا كان محصنا وبين حكمه إذا كان غير محصن ما وصف الله -عز وجل- في كتابه بقوله: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا فكان هذا هو حد الزانية أن تمسك في البيوت حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلا، ثم قال النبي -عليه السلام-: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" فذكر ما قد ذكرناه في حديث عبادة، فكان ذلك هو السبيل الذي قال الله -عز وجل- أو يجعل الله لهن سبيلا فجعل الله ذلك السبيل على ما قد بينه على لسان نبيه -عليه السلام- وفرض في ذلك الجلد والرجم على الثيب، والجلد والنفي على غير الثيب، . فعلمنا أن ذلك القول كان من النبي -عليه السلام- بعد نزول هذه الآية، وأنه لم يتقدم نزول هذه الآية وجوب الرجم على الزاني; لأن حده كان ما وصف الله -عز وجل- في كتابه من الحبس في البيوت، ولم يكن بين قوله: أو يجعل الله لهن سبيلا وبين حديث عبادة - رضي الله عنه - حكم آخر، فعلمنا أن حديث عبادة كان بعد نزول هذه الآية، وأن حديث ماعز ) الذي سأله رسول الله -عليه السلام- فيه عن إحصانه ، لتفرقته بين حد المحصن وغير المحصن، وحديث أبي هريرة 5 وزيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهما- أنه فرق رسول الله -عليه السلام- فيه بين حكم البكر والثيب، ، فجعل على البكر جلد مائة وتغريب عام، وعلى الثيب الرجم - متأخرا عنه، فكان ذلك ناسخا له; لأن ما تأخر من حكم رسول الله -عليه السلام- ينسخ ما تقدم منه، فلهذا كان ما ذكرنا من حديث أبي هريرة 5 وزيد بن خالد وحديث ماعز أولى من حديث عبادة، مع ما قد شد ذلك من النظر الصحيح؛ وذلك أنا رأينا [ ص: 454 ] العقوبات المتفق عليها في انتهاك الحرمات كلها إنما هي شيء واحد، من ذلك أنا رأينا أن السارق عليه القطع لا غير، والقاذف عليه الجلد لا غير. فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك الزاني عليه شيء واحد لا غير، فيكون عليه الرجم الذي قد اتفق أنه عليه، وينتفي عنه الجلد الذي لم يتفق به عليه. وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد -رحمهم الله-.

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: لما كان حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي فيه الزيادة -وهي الرجم والجلد- أولى من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، وجابر بن سمرة في قصة ماعز التي فيها الرجم فقط، والأخذ بالزائد أولى لشموله الكل، فيكون العمل بكل الآثار، وهو أولى من إعمال بعضها وإهمال بعضها.

                                                والجواب ما ذكره بقوله: "قيل له: لدلالة ...." إلى آخره.

                                                وملخصه أن يقال: إن الذي ذكرتم إنما يتمشى إذا لم يكن ثمة نسخ، وحديث عبادة منسوخ فلا يعمل به، ووجه النسخ ما بينه مستقصى.

                                                وقال أبو عمر: أما حديث عبادة فإنما كان هذا في أول نزول الجلد; وذلك أن الزناة كانت عقوبتهم إذا شهد عليهم أربعة من العدول في أول الإسلام أن يمسكوا في البيوت إلى الموت، أو يجعل الله لهم سبيلا، فلما نزلت آية الجلد قام رسول الله -عليه السلام- فقال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر .. الحديث" فكان هذا في أول الأمر، ثم رجم رسول الله -عليه السلام- ولم يجلد، فعلمنا أن هذا كان حكما أحدثه الله نسخ به ما قبله، ومثل هذا كثير في أحكامه وأحكام رسوله -عليه السلام- ليبتلي عباده، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله -عليه السلام- وقد كان الزهري ينكر الجلد مع الرجم ويقول: "رجم رسول الله -عليه السلام- ولم يجلد" ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري .

                                                قال أبو عمر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا [ ص: 455 ] بكر بن حماد، ثنا مسدد، ثنا حماد بن زيد ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "أيها الناس إن الرجم حق فلا تخدعن عنه، وإن آية ذلك أن رسول الله -عليه السلام- قد رجم، وأن أبا بكر قد رجم، وإنا قد رجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا".

                                                قال أبو عمر: الخوارج والمعتزلة يكذبون بهذا كله. نعوذ بالله من ذلك. انتهى.

                                                قلت: لم يختلف السلف في حد الزانيين في أول الإسلام ما قال الله -عز وجل-: واللاتي يأتين الفاحشة إلى قوله: فآذوهما فكان حد المرأة: الحبس والأذى بالتعيير، وكان حد الرجل: التعيير ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ونسخ عن المحصن بالرجم; وذلك لأن في حديث عبادة: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا" بيانا على أن المراد من السبيل هو ما ذكره من قوله: "البكر بالبكر...." الحديث. ولم يكن بينهما حكم آخر; وذلك لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدما لقول النبي -عليه السلام- وقد بين -عليه السلام- بحديث عبادة أن المراد من السبيل هو ما ذكره دون غيره.

                                                فإذا كان كذلك كان الأذى والحبس منسوخين عن غير المحصن بالآية، وعن المحصن بالسنة وهو الرجم، ثم جاء حديث أبي هريرة بعد حديث عبادة، فصار ناسخا لما فيه من الجلد; إذ لو كان الجمع بينهما ثابتا لاستعمله النبي -عليه السلام- [ ص: 456 ] ولاسيما في قضية ماعز، وقد وردت قصة ماعز - رضي الله عنه - من جهات مختلفة، ولم يذكر في شيء منها الجلد مع الرجم.

                                                فإن قيل: سلمنا أن حديث عبادة بعد نزول الآية فمن أين لنا التاريخ الذي يدل على أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديثه؟

                                                قلت: قد ثبت فيما مضى أنه لم يكن بين قوله تعالى: أو يجعل الله لهن سبيلا وبين حديث عبادة حكم آخر، وأن الآية المذكورة في سورة النور ونزولها كان في قصة الإفك، وقصة الإفك كانت قبل إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - فبالضرورة يكون حديثه متأخرا، فيكون ناسخا. والله أعلم.

                                                قوله: "مما قد شد ذلك" أشار به إلى عدم جواز الجمع بين الجلد والرجم، وأراد بالنظر الصحيح القياس، وبين وجهه بقوله: "وذلك أنا رأينا العقوبات ...." إلى آخره.

                                                ولقائل أن يقول: السارق عليه القطع والضمان عندي، فلم يصح القياس فيه، فافهم.




                                                الخدمات العلمية