الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
19590 8594 - (20094) - (5\8 - 9) عن أبي رجاء العطاردي، حدثنا سمرة بن جندب الفزاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟ " قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص، قال: وإنه قال لنا ذات غداة: " إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي عليه بالصخرة لرأسه، فيثلغ بها رأسه، فيتدهدا الحجر هاهنا، فيتبع الحجر يأخذه، فما يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى "، قال: قلت: "سبحان الله ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقت معهما، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخريه إلى قفاه، وعينيه إلى قفاه "، قال: "ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح الأول كما كان، ثم يعود [ ص: 63 ] فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى "، قال: قلت: "سبحان الله ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق "، قال: "فانطلقنا، فأتينا على مثل بناء التنور "، قال عوف: وأحسب أنه قال: وإذا فيه لغط وأصوات، قال: "فاطلعت، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهيب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا "، قال: قلت: "ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقت فأتينا على نهر، حسبت أنه قال: أحمر، مثل الدم، وإذا في النهر رجل يسبح، ثم يأتي ذلك الرجل الذي قد جمع الحجارة، فيفغر له فاه، فيلقمه حجرا حجرا " قال: "فينطلق فيسبح ما يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه وألقمه حجرا "، قال: قلت: "ما هذا؟ "، قال: "قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلا مرآة، فإذا هو عند نار له يحشها، ويسعى حولها، قلت لهما: "ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق فانطلقت فأتينا على روضة معشبة فيها من كل نور الربيع "، قال: "وإذا بين ظهراني الروضة رجل قائم طويل، لا أكاد أن أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط وأحسنه "، قال: قلت لهما: "ما هذا وما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقت فانتهينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها، ولا أحسن "، قال: "فقالا لي: ارق فيها، فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب، ولبن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففتح لنا، فدخلنا فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء "، قال: "فقالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فإذا نهر صغير معترض يجري كأنما هو المحض في البياض "، قال: "فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، وقد ذهب ذلك السوء عنهم، وصاروا في أحسن صورة" [ ص: 64 ] قال: "فقالا لي: هذه جنة عدن، وهاذاك منزلك "، قال: "فسما بصري صعدا ، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء "، قالا لي: "هاذاك منزلك "، قال: "قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فلأدخله "، قال: "قالا لي: أما الآن فلا، وأنت داخله "، قال: "فإني رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت؟ " قال: "قالا لي: "أما إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه رجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، وعيناه إلى قفاه، ومنخراه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في بناء مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي يسبح في النهر، ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي رأيت في الروضة، فإنه إبراهيم عليه السلام، وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة "، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين "، " وأما القوم الذين كان شطر منهم حسنا ، وشطر قبيحا ، فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا ، وآخر سيئا ، فتجاوز الله عنهم".

التالي السابق


* قوله : "مما يقول لأصحابه": الظاهر أنه خبر "كان" والمعنى: كان من القائلين هذا القول، إلا أنه وضع "ما" موضع "من" تفخيما؛ كقوله تعالى: والسماء وما بناها [الشمس: 5] والمراد: أنه كان ممن يجيد تعبير الرؤيا؛ إذ هذا القول لا يصدر عادة إلا ممن يجيد ذلك، وقيل: يحتمل أن يكون قوله: [ ص: 65 ] "هل رأى أحد منكم رؤيا؟ "مبتدأ، و"مما يقول" خبر له مقدم عليه، والجملة خبر "كان" بتأويل: هذا القول مما يقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه.

* "آتيان": - بمد الهمزة تثنية الآتي - وفي رواية: أنهما جبريل وميكائيل.

* "ابتعثاني": افتعال من البعث - بموحدة وعين مهملة ومثلثة - أي: أخذاني وأقاماني من محلي، وتكرار التأكيد بـ"أن" مرارا لتحقيق ما رآه؛ لكونه عجيبا .

* "مضطجع": وفي رواية: "مستلق على قفاه".

* "يهوي": كيرمي؛ أي: يميل بها لرأسه؛ أي: ليكسره بها.

* "فيثلغ": - بفتح اللام وإعجام الغين - أي: يدق ويكسر.

* "فيتدهده": - بدالين وهاءين - أي: يتدحرج ويتنقل من يده.

* "انطلق انطلق": بالتكرار للتأكيد.

* "بكلوب": - بفتح الكاف وتضم، وضم اللام المشددة - : يصنع من حديد، ويعوج رأسه.

* "فيشرشر": - بمعجمتين وراءين - أي: يقطع.

* "شدقه": - بكسر المعجمة - أي: جانب فمه.

* "ومنخراه": - بالتثنية والرفع - أي: وكذلك منخراه وعيناه يقطعهما، وفي بعض النسخ - بالنصب - وهو الظاهر، والمنخر - بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة - وفيه وجوه أخر، وفي رواية البخاري: "منخره وعينه" بالإفراد - وهو الظاهر الموافق لما قبله وما بعده.

[ ص: 66 ]

* "لغط": - بفتحتين - : أصوات مختلطة غير منفهمة.

* "ضوضوا": - بفتح ضادين معجمتين وسكون واوين - : صيغة ماض، الجمع من ضوضاء؛ أي: صاحوا.

* "وإذا في النهر رجل يسبح ثم يأتي ذلك الرجل": هكذا في النسخ، والظاهر أن في هذه الرواية وقع اختصار مخل، أو في النسخ سقط، والصواب كما وقع في البخاري: "وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة" إلى آخره.

ثم قوله: "يسبح" كيمنع، وكذا "يفغر" بتقديم الفاء على الغين المعجمة، بمعنى: يفتح، و"يلقم": من الإلقام.

* "كريه المرآة": - بفتح الميم وسكون الراء وهمزة ممدودة ثم هاء التأنيث - أي: كريه المنظر.

* "كأكره ما أنت راء رجلا مرآة": هو حال من رجل، أو صفة ثانية له، واسم التفضيل للمفعول؛ كأشعل، ومعنى "ما أنت راء" أي: ما أنت رائيه، فعائد الموصول مقدر، وقوله: "رجلا" حال من الموصول مبين له، وقوله: "مرآة" منصوب على التمييز؛ أي: شبيها بمرئي لك يكون ذلك المرئي أشد مكروهية من حيث المرآة حال كون ذلك المرئي رجلا.

* "يحشها": - بضم الحاء المهملة وتشديد الشين المعجمة - أي: يوقدها؛ كأنه من الحشيش؛ لأن النار توقد به.

* "معشبة": بكسر الشين - أي: ذات عشب.

* "نور الربيع": بفتح النون - أي: زهره.

[ ص: 67 ]

* "طولا ": بالنصب على التمييز.

* "من أكثر ولدان رأيتهم قط": قيل: أصل التركيب: فإذا حول الرجل ولدان ما رأيت ولدانا أكثر منهم، فحين تضمن هذا التركيب معنى النفي جاز زيادة "من" واستعمال "قط" المختص بالماضي المنفي.

* "وأحسنه": ضميره للولدان بتأويل ما ذكر.

* "ما هذا": قيل: الظاهر: من هذا؛ فكأنه قال: "ما" تنبيها على أنه من إفراط طوله ممن يخفى جنسه، فينبغي السؤال عنه بأنه بشر أم ملك؟

* "دوحة": - بفتح فسكون - أي: شجرة عظيمة.

* "ارقا": وفي البخاري: "ارق" بسقوط الألف، وهو الظاهر، إلا أنه حين ثبتت الألف تجعل للإشباع.

* "لبنة ذهب": - بالرفع - أي: منها لبنة ذهب، واللبنة: ككلمة وزنا.

* "من خلقهم": - بفتح فسكون - أي: من هيئتهم.

* "فقعوا": أمر من الوقوع.

* "معترض يجري": أي: عرضا.

* "المحض": - بإهمال الحاء وإعجام الضاد - : اللبن الخالص.

* "فسما": - بإهمال السين وتخفيف الميم - أي: ارتفع.

* "صعدا ": - بضمتين - أي: ارتفاعا كثيرا .

* "الزبابة": - بإهمال الراء - كالسحابة وزنا ومعنى.

[ ص: 68 ]

* "ذراني": اتركاني.

* "فلأدخله": بكسر اللام - أي: فذاك الترك مطلوب منكما لأدخله.

* "إنا": - بكسر الهمزة وتشديد النون - .

* "فيرفضه": كينصر ويضرب؛ أي: يتركه.

* "يغدو": - بالغين المعجمة - أي: يخرج في الصباح.

* "الكذبة": - بفتح فسكون - .

* "تبلغ الآفاق": الظاهر أن الجملة صفة الكذبة؛ لعدم التعين؛ كما في قوله تعالى: كمثل الحمار يحمل أسفارا [الجمعة: 5].

* "ويلقم": - على بناء المفعول - .

* "الحجارة": - بالنصب على أنه مفعول ثان - .

* "وأولاد المشركين": بالرفع - أي: فيهم؛ أي: في أولئك الولدان، والمراد: من مات منهم على الفطرة، وليس فيه أن كلهم يموت على الفطرة.

* "كانوا شطر منهم حسن": هكذا في بعض النسخ - برفع "شطر" و"حسن" - فهما مبتدأ وخبر، والجملة خبر "كان" وفي بعضها: "حسنا " - بالنصب - فـ"شطر" بدل من اسم كان، و"حسنا " خبر كان.

* * *




الخدمات العلمية