الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
24573 10663 - (25097) - (6\141 - 142) عن يزيد، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص، قال: أخبرتني عائشة، قالت: خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس. قالت: فسمعت وئيد الأرض ورائي، - يعني حس الأرض، - قالت: فالتفت، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن [ ص: 314 ] أوس، يحمل مجنه. قالت: فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد، قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد. قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم. قالت: فمر وهو يرتجز ويقول:


لبث قليلا يدرك الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل

/ 50 قالت: فقمت، فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيهم عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه تسبغة له، - يعني مغفرا، - فقال عمر: ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء، أو يكون تحوز؟ قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت لي ساعتئذ، فدخلت فيها. قالت: فرفع الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا طلحة بن عبيد الله، فقال: يا عمر، ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله عز وجل؟ قالت: ويرمي سعدا رجل من المشركين من قريش، يقال له ابن العرقة، بسهم له، فقال له: خذها وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله، فقطعه، فدعا الله عز وجل سعد، فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة. قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. قالت: فرقأ كلمه، وبعث الله عز وجل الريح على المشركين، فكفى الله عز وجل المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة، فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فوضع السلاح، وأمر بقبة من أدم، فضربت على سعد في المسجد. قالت: فجاءه جبريل عليه السلام، وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال: أقد وضعت السلاح؟ والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة، فقاتلهم. قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر على بني غنم، وهم جيران المسجد حوله، فقال: " من مر بكم؟ " فقالوا: مر بنا دحية الكلبي، [ ص: 315 ] وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنة وجهه جبريل عليه السلام. فقالت: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح. قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انزلوا على حكم سعد بن معاذ " فنزلوا، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف، قد حمل عليه، وحف به قومه، فقالوا: يا أبا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت. قالت: لا يرجع إليهم شيئا، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم، التفت إلى قومه، فقال: قد أنى لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قال: قال أبو سعيد فلما طلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قوموا إلى سيدكم فأنزلوه " فقال عمر: سيدنا الله عز وجل. قال: أنزلوه، فأنزلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احكم فيهم " قال سعد: فإني أحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم - وقال يزيد ببغداد: ويقسم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله " قالت: ثم دعا سعد، قال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك صلى الله عليه وسلم من حرب قريش شيئا، فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني إليك. قالت: فانفجر كلمه، وكان قد برئ حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر. قالت: فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر، وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله عز وجل: رحماء بينهم [الفتح: 29] قال علقمة: قلت: أي أمه، فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد، فإنما هو آخذ بلحيته.


* * *

[ ص: 316 ]

التالي السابق


[ ص: 316 ] * قوله: "أقفو": أي: أقتدي؛ أي: أمشي وراءهم.

* "فسمعت وئيد الأرض": الوئيد: الصوت الشديد؛ أي: سمعت صوت مشي الناس من ورائي.

* "الهيجا": هي الحرب - يمد ويقصر - .

* "جمل": أي: هو ليث في الجراءة، وجمل في عظم الجثة، ومعنى: "قليلا يدرك الهيجا" أي: قليلا يغلبه الحرب.

* "تحوز": أي: فرار، قيل: هو من قوله تعالى: أو متحيزا إلى فئة [الأنفال: 16] أي: منضما إليها.

* "فرقأ": من رقأ الجرح: إذا سكن دمه، وانقطع، و"الكلم" - بالسكون - : الجرح.

* "وأهل النكاية فيك": أي: أهل المحاربة لأجلك.

* "لا يرجع إليهم شيئا": أي: سعد لا يرد إليهم الجواب.

* "كانت عينه لا تدمع على أحد": أي: مع صوت، وإلا فقد بكى على إبراهيم ابنه وغيره، والله تعالى أعلم.

* * *




الخدمات العلمية