الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2366 1419 - (2370) - (1 \ 261 - 262) حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه محمد بن مسلم ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أن عبد الله بن عباس أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، وبعث كتابه مع دحية الكلبي ، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ، ليدفعه إلى قيصر ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر ، وكان قيصر لما كشف الله - عز وجل - عنه جنود فارس ، مشى من حمص إلى إيلياء على الزرابي تبسط له ، فقال عبد الله بن عباس : فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حين قرأه : التمسوا لي من قومه من أسأله عن رسول الله .

قال ابن عباس : فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام في رجال من قريش قدموا تجارا ، وذلك في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش .

قال أبو سفيان : فأتاني رسول قيصر ، فانطلق بي وبأصحابي ، حتى قدمنا إيلياء ، فأدخلنا عليه ، فإذا هو جالس في مجلس ملكه ، عليه التاج ، وإذا حوله عظماء الروم ، فقال لترجمانه : سلهم : أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ قال أبو سفيان : أنا أقربهم إليه نسبا ، قال : ما قرابتك منه ؟ قال : قلت : هو

[ ص: 457 ] ابن عمي . قال أبو سفيان : وليس في الركب يومئذ رجل من بني عبد مناف غيري ، قال : فقال قيصر : أدنوه مني . ثم أمر بأصحابي ، فجعلوا خلف ظهري عند كتفي ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه : إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذب ، فكذبوه . قال أبو سفيان : فوالله لولا الاستحياء يومئذ أن يأثر أصحابي عني الكذب ، لكذبته حين سألني ، ولكني استحيت أن يأثروا عني الكذب ، فصدقته عنه .

ثم قال لترجمانه : قل له : كيف نسب هذا الرجل فيكم ؟ قال : قلت : هو فينا ذو نسب ، قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قال : قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه في الكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : فقلت : لا . قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قال : قلت : لا . قال : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قال : قلت : بل ضعفاؤهم . قال : فيزيدون أم ينقصون ؟ قال : قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال : قلت : لا . قال : فهل يغدر ؟ قال : قلت : لا ، ونحن الآن منه في مدة ، ونحن نخاف ذلك . قال : قال أبو سفيان : ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه به غيرها ، لا أخاف أن يؤثر عني ، قال : فهل قاتلتموه أو قاتلكم ؟ قال : قلت : نعم . قال : كيف كانت حربكم وحربه ؟ قال : قلت : كانت دولا سجالا ندال عليه المرة ، ويدال علينا الأخرى . قال : فبم يأمركم ؟ قال : قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق ، والعفاف والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة .

قال : فقال لترجمانه حين قلت له ذلك : قل له : إني سألتك عن نسبه فيكم ، فزعمت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها .

وسألتك : هل قال هذا القول أحد منكم قط قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو

457

[ ص: 458 ] كان أحد منكم قال هذا القول قبله ، قلت : رجل يأتم بقول قيل قبله .

وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ، ويكذب على الله - عز وجل - . وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك ، قلت : رجل يطلب ملك آبائه .

وسألتك : أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل .

وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم .

وسألتك : هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد .

وسألتك : هل يغدر ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الرسل .

وسألتك : هل قاتلتموه وقاتلكم ؟ فزعمت أن قد فعل ، وأن حربكم وحربه يكون دولا ، يدال عليكم المرة ، وتدالون عليه الأخرى ، وكذلك الرسل تبتلى ، ويكون لها العاقبة .

وسألتك : بماذا يأمركم ؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله - عز وجل - وحده لا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ، ويأمركم بالصدق ، والصلاة ، والعفاف ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أظن أنه منكم .

فإن يكن ما قلت فيه حقا ، فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، والله ! لو أرجو أن أخلص إليه ، لتجشمت لقيه ، ولو كنت عنده ، لغسلت عن قدميه .

قال أبو سفيان : ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر به ، فقرئ ، فإذا فيه :

[ ص: 459 ] "بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى .

أما بعد : فإني أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت ، فعليك إثم الأريسيين - يعني : الأكرة - ، و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران : 64] .

قال أبو سفيان : فلما قضى مقالته ، علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم ، وكثر لغطهم ، فلا أدري ماذا قالوا ، وأمر بنا فأخرجنا ، قال أبو سفيان : فلما خرجت مع أصحابي ، وخلصت لهم ، قلت لهم : أمر أمر ابن أبي كبشة ، هذا ملك بني الأصفر يخافه ،
قال أبو سفيان : فوالله ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمره سيظهر ، حتى أدخل الله قلبي الإسلام ، وأنا كاره .

التالي السابق


* قوله : "إلى قيصر " : هو لقب لكل من ملك الروم .

* "دحية " : - بكسر الدال أو فتحها - .

* "إلى عظيم بصرى " : - بضم الموحدة مقصورا - : مدينة حوران ، وعظيمها : أميرها .

* "فدفعه عظيم بصرى " : قيل : فيه مجاز ; فإنه أرسل به إليه صحبة عدي بن حاتم .

* "مشى من حمص " : - بكسر حاء وسكون ميم - : بلدة معروفة بالشام .

* "إلى إيلياء) : - بكسر همزة ولام ، وسكون ياء بينهما ، ممدود ، ويقصر - : بيت المقدس ، قيل : معنى إيلياء : بيت الله ، وزاد في مسلم : "شكرا لما أبلاه الله" ; أي :

[ ص: 460 ] شكرا لما أنعم الله به عليه ، وآتاه إياه ; من دفع جنود فارس عنه .

* "على الزرابي " : أي : البسط الفاخرة ، ومنه قوله تعالى : وزرابي مبثوثة [الغاشية : 16] .

* "تجارا " : - بكسر وتخفيف ، أو ضم وتشديد - .

* "وذلك في المدة . . . إلخ " : يعني : صلح الحديبية .

* "فانطلق بي " : يحتمل على بناء الفاعل والمفعول ، وكذا قوله : "فأدخلنا " .

* "لترجمانه " : - بفتح التاء وضم الجيم ، وقد تضم التاء ، وجوز فتحهما وضم الأول مع فتح الثاني - ، وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى .

* "وليس في الركب " : - بفتح فسكون - : جمع راكب ; كصحب جمع صاحب ، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها عرفا .

* "أدنوه " : - بفتح الهمزة - ; أي : قربوه .

* "فجعلوا " : على بناء المفعول ; أي : لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب كما في رواية .

* "فإن كذب " : - بالتخفيف - .

* "فكذبوه " : - بالتشديد - .

* "أن يأثر " : - بضم مثلثة أو كسرها - ; أي : يروي ، يريد : أنه ما خاف من تكذيبهم إياه ، وإنما استحيا أن ينقلوا عنه الكذب إلى قومه إذا رجعوا إلى البلاد ، فيقولوا : قد كذب عند الملك .

* "لكذبته " : - بالتخفيف - لما كان من البغض والعداوة في ذلك الوقت ، وفيه أن الكذب كان قبيحا في الجاهلية - أيضا - .

[ ص: 461 ] * "فصدقته " : - بالتخفيف - .

* "ذو نسب " : أي : عظيم ، على أن التنكير للتعظيم .

* "في الكذب " : أي : في شأن الكذب ، وفي هذه الصفة ، وفي رواية البخاري : "بالكذب " ، وهو أظهر .

* "من ملك " : "من" - بكسر الميم - : حرف جر ، و"ملك" - بكسر اللام - ، هذا هو المشهور ، وقيل : - بفتح الميم - ، وملك - بفتحات - : فعل ماض .

* "بل ضعفاؤهم " : قيل : محمول على الغالب ; لئلا يشكل بنحو حمزة والعمرين ، وقيل : بل مبني على أن المراد بالضعفاء : من لا يستنكف عن الاتباع ، وبالأشراف : خلافه .

* "سخطة " : - بفتح السين وسكون المعجمة - ; أي : كراهة .

* "فهل يغدر " : - بكسر الدال - ، وهو ترك الوفاء بالعهد .

* "في مدة " : يعني : مدة صلح الحديبية .

* "ذلك " : أي : الغدر .

* "لأخاف " : هكذا - بلام التعليل - في أصلنا ; أي : ما أدخلت كلمة حتى أخاف بها رواية الكذب عني .

* "دولا " : - مثلثة الدال مع فتح الواو : جمع دولة بالضم ، وقيل : بالفتح في الحرب ، والضم في المال ، مع سكون الواو - : ما تداولته الأيدي ، تارة لهؤلاء ، وتارة لآخرين .

* "سجالا " : - بكسر السين - بمعناه وأصله : الدلو يكون في يد هذا تارة ، وفي آخر أخرى .

[ ص: 462 ] * "ندال " : على بناء المفعول ، من الإدالة بمعنى : النصرة ، أي : يكون لنا الغلبة مرة ، وله أخرى .

* "والعفاف " : - بفتح العين - ; أي : الكف عما لا يليق .

* "في نسب قومها " : أراد : النسب العظيم الشريف ، كأنه الذي يقال له : النسب ، دون غيره ، ولعل هذا هو العادة بعد لوط - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - ، فإنه كان غريبا في قومه فقال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [هود : 80] ، أو المراد : الغالب المعتاد .

* "قلت : رجل يأتم " : - بتشديد الميم - ; أي : يقتدي ; أي : لو قال أحد قبله ، لتوهم أنه يقول تقليدا : وحيث لا ، فلا يتوهم ذلك .

* "لم يكن ليذر الكذب . . . إلخ " : النفي في "لم يكن" متوجه إلى المجموع ; أي : لم يكن يجمع بين ترك الكذب على الناس ، والكذب على الله ، وذلك لأن الكذب على الله هي الغاية القصوى في الكذب ، فلا يكون إلا من كذاب لا يترك الكذب على أحد حتى ينتهي أمره إلى الكذب على الله ، فمن لا يكون كاذبا على غيره ، لا يمكن أن يكذب على الله مرة واحدة .

* "رجل يطلب ملك آبائه " : أي : لتوهم أنه جعل دعوى النبوة حيلة ووسيلة لطلب الملك ، وحيث لا ، فلا يتوهم ذلك .

* "وهم أتباع الرسل " : أي : أولا ; إذ لا يمنعهم شيء من اتباع الحق بعد معرفته ، بخلاف غيرهم ، ويشهد له نحو قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [سبأ : 34] ، وله أمثال في القرآن .

* "وكذلك الإيمان " : أي : يريد : أهله بعد أن يظهر غريبا .

* "حتى يتم " : أي : يقوى بما قدر الله من أهله ، أراد : أنه المعتاد ، وإلا فقد جاء أن بعض الرسل ما آمن به أحد .

[ ص: 463 ] * "بشاشة القلوب " : - بالنصب والإضافة - ; يعني : انشراح الصدور ، ومخالطة الإيمان بها : اجتماعه معها .

* "تبتلى " : أي : يبتليهم الله بذلك ; ليعظم لهم أجرهم بكثرة صبرهم ، وبذلهم وسعيهم في طاعة الله تعالى ، وليس هذا من علامات الكذب .

* "وهذه صفة نبي " : إذ لا يأمر الكذاب بمثلها .

* "موضع قدمي " : أي : أرض بيت المقدس .

* "أن أخلص إليه " : - بضم اللام - ; أي : أصل إليه سالما من شر الروم . * "لتجشمت " : تكففت .

* "لقيه " : - بضم فتشديد ياء - ; أي : لقاءه .

* "عن قدميه " : التراب وغيره ، والمراد : المبالغة في القيام بخدمته .

* "إلى هرقل " : - بكسر هاء وفتح راء وسكون قاف - .

* "بدعاية الإسلام " : - بكسر الدال - ; أي : بدعوته ، وجاء : "بداعية الإسلام " أي : بالكلمة الداعية إلى الإسلام .

* "أسلم " : أمر من الإسلام .

* "تسلم " : من السلامة ; أي : تكن سالما من عذاب الآخرة وعذاب الدنيا مما فيه الكفرة .

* "فإن توليت " : أعرضت .

* "إثم الأريسيين " : - بفتح همزة ثم راء مكسورة ثم ياء تحتية ثم سين ثم ياء تحتية مشددة - جمع الأريسي ; أي : إثم اتباعهم إياك في ترك الإسلام ، فلا ينافي قوله - تعالى - : ولا تزر وازرة وزر أخرى [فاطر : 18] .

* "يعني : الأكرة " : - بفتحات - ; أي : أهل الزرع .

[ ص: 464 ] * "وكثر لغطهم " : - بفتح اللام والغين المعجمة ، ويجوز إسكان الغين - ، وهي الأصوات المختلطة .

* "أمر " : - بفتح همزة وكسر ميم - ; أي : عظم .

* "ابن أبي كبشة " : قيل : هو رجل خالف العرب في الدين ، فنسبه صلى الله عليه وسلم إليه بأنه مثله ، وقيل : هو جد له من قبل أمه ، وأبوه من الرضاعة .

* "ذليلا " : في نفسي بما علمت من عزته صلى الله عليه وسلم .

* "حتى أدخل الله " : غاية لما قبله ; لأنه ظهر حينئذ ، فزال الإيقان بأنه سيظهر بتحقق الظهور ، والله تعالى أعلم .

* * *




الخدمات العلمية