الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
290 [ ص: 182 ] 207 - (288) - (1 \ 41 - 42) عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: كنت عند عبد الله بن عمر، ونحن ننتظر جنازة أم أبان ابنة عثمان بن عفان، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائده، قال: فأراه أخبره بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي وكنت بينهما، فإذا صوت من الدار، فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " فأرسلها عبد الله مرسلة ، قال ابن عباس: كنا مع أمير المؤمنين عمر، حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو برجل نازل في ظل شجرة، فقال لي: انطلق فاعلم من ذاك. فانطلقت فإذا هو صهيب، فرجعت إليه، فقلت: إنك أمرتني أن أعلم لك من ذاك ، وإنه صهيب. فقال: مروه فليلحق بنا. فقلت: إن معه أهله. قال: وإن كان معه أهله - وربما قال أيوب: مرة فليلحق بنا - فلما بلغنا المدينة لم يلبث أمير المؤمنين أن أصيب، فجاء صهيب فقال: وا أخاه، وا صاحباه. فقال عمر: ألم تعلم، أولم تسمع - أو قال: أولم تعلم، أولم تسمع - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه "؟ فأما عبد الله فأرسلها مرسلة، وأما عمر فقال: " ببعض بكاء ".

فأتيت عائشة فذكرت لها قول عمر، فقالت: لا والله، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الكافر ليزيده الله عز وجل ببكاء أهله عذابا " وإن الله لهو أضحك وأبكى، ولا تزر وازرة وزر أخرى [الأنعام: 164].

قال أيوب: وقال ابن أبي مليكة: حدثني القاسم، قال: لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر، قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ .

التالي السابق


* قوله: "يقوده قائده" : لكونه عمي في آخر عمره.

[ ص: 183 ] * "فإذا صوت" : سمع أو خرج، والمراد: صوت البكاء.

* "فأرسلها" : أي: الرواية; حيث لم يقل: ببعض البكاء.

* "فاعلم" : من العلم.

* "لم يلبث" : أي: كثيرا.

* "أن أصيب" : أي: إلى أن أصيب.

* "لا والله" : حلفت على الظن، ولا إثم على الظان، وهي زعمت أن الحديث معارض للقرآن، فلا يمكن أن يكون من قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت حديثا آخر، فزعمت أن هذا الحديث تغير منه.

والحديث قد جاء من طرق كثيرة عن صحابة عديدة، فلا يمكن القول بأنه مما غلط فيه عمر أو ابنه، ولا معارضة بينه وبين القرآن; بأن يحمل على ما إذا أوصى بالبكاء، أو علم من حال أهله أنهم يبكون، ولم يوص بتركه، وقد ذكر العلماء له محامل أخر - أيضا - .

* "إن الكافر ليزيده الله - عز وجل - . . . إلخ" : كأنها فهمت أن معنى هذا الحديث هو أن الكافر يزيده الله عذابا جزاء لكفره; كما قال - تعالى - : فلن نزيدكم إلا عذابا [النبإ: 30]، إلا أن الله أجرى عادته بإظهار الزيادة عند البكاء، فصار كأن البكاء سبب للزيادة، لا أن الزيادة جزاء للبكاء، ولا يتصور مثل ذلك في تعذيب المؤمن بسبب البكاء، فصار هذا الحديث على فهمها غير مخالف للقرآن، بخلاف حديث تعذيب المؤمن، فاندفع أن هذا الحديث أيضا يخالف قوله تعالى: ولا تزر وازرة [الأنعام: 164]، والتأويل - بحمل "الباء" على معنى "في" - ; أي: يعذب بمعاصيه في وقت البكاء، مشترك بينهما، فلا يصلح وجها لتصحيح أحدهما دون الآخر، فما لها تثبته وتبطل الحديث الآخر بالمخالفة؟

* "وإن الله لهو أضحك وأبكى" : ليس المراد بذلك أن الخالق هو الله تعالى

[ ص: 184 ] فلا يعاقب العبد بذلك أصلا، بل المراد: أن الله أبكى الحي، فلا يأخذ بذلك الميت، ويحتمل أن يقال: مرادها: بيان أن عذاب الميت ببكاء الأهل لا وجه له أصلا، لا عقلا ولا شرعا، أما عقلا، فلأن الفعل مخلوق الله - تعالى - ، فلا يتجه عذاب العبد به أصلا، لا من قام به، ولا غيره لولا الشرع، وأما شرعا، فلأن الشرع ما ورد إلا بعذاب من قام به الفعل، لا بعذاب غيره، فلا يصح القول بعذاب الميت ببكاء أهله، فإلى الأول أشارت بقولها: "وإن الله لهو أضحك وأبكى"، وإلى الثاني بقولها: ولا تزر وازرة [الأنعام: 164]، وهذا الوجه أدق، وعلى الوجهين لا يرد أن هذا الكلام يقتضي ألا يعذب أحد بفعل أصلا، لا الفاعل ولا غيره; لأن الخالق مطلقا هو الله - تعالى - .

* * *




الخدمات العلمية