الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4297 - حدثنا محمد خزيمة ، قال : مسلم بن إبراهيم ، قال : ثنا أبان بن يزيد ، عن يحيى بن أبي كثير . ( ح ) .

                                                        4298 - وحدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : ثنا أبو مسلمة ، موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا أبان ، قال : ثنا يحيى ، قال : ابن خزيمة في حديثه ، عن زيد ، وقال : ابن أبي داود ، قال : ثنا زيد .

                                                        ثم اجتمعا جميعا ، فقالا : عن أبي سلام ، عن أبي راشد الحبراني ، عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ، ولا تأكلوا به .

                                                        فحظر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوضوا بالقرآن شيئا من عوض الدنيا .

                                                        فعارض ذلك ما حمل عليه المخالف معنى الحديث الأول ، لو ثبت أن معناه كذلك ، ولم يثبت ذلك ، إذ كان يحتمل تأويله بما وصفنا .

                                                        وقد يحتمل أيضا معنى آخر ، وهو أن الله عز وجل أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم ملك البضع بغير صداق ، ولم يجعل ذلك لأحد غيره ، قال الله عز وجل : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ، فيحتمل أن يكون قد كان مما خصه الله عز وجل به من ذلك أن يملك غيره ما كان له تملكه بغير صداق فيكون ذلك خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الليث .

                                                        ومما يدل على ذلك أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : قد وهبت نفسي لك ، فقام إليه ذلك الرجل ، فقال له : إن لم يكن لك بها حاجة ، فزوجنيها .

                                                        فكان هذا ما ذكر في ذلك الحديث ، ولم يذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاورها في نفسها ، ولا أنها قالت له : ( زوجني منه ) .

                                                        فدل ذلك إذا كان تزويجه إياها منه لا بقول تأتي به بعد قولها : قد وهبت نفسي لك وإنما هو بقولها الأول ، ولم تك قالت له : ( قد جعلت لك أن تهبني لمن شئت ) بالهبة التي لا توجب مهرا ، جاز النكاح .

                                                        وقد أجمعوا أن الهبة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من اختصاص الله تعالى إياه بها دون المؤمنين .

                                                        [ ص: 19 ] غير أن قوما قالوا : خالصة لك أي : بلا مهر ، وجعلوا الهبة نكاحا لغيره ، يوجب المهر .

                                                        وقال آخرون : خالصة لك أي : أن الهبة تكون لك نكاحا ، ولا تكون نكاحا لغيرك .

                                                        فلما كانت المرأة المذكور أمرها في حديث سهل ، منكوحة بهبتها نفسها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما ذكرنا ، ثبت أن ذلك النكاح خاص كما قال الذين ذهبوا إلى ذلك .

                                                        فإن قال قائل : فقد يجوز أن يكون مع ما ذكرنا في الحديث سؤال من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها أن يزوجها منه ، وإن كان ذلك لم ينقل إلينا في ذلك الحديث .

                                                        قيل له : وكذلك يحتمل أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، قد جعل لها مهرا غير السورة ، وإن كان ذلك لم ينقل إلينا في الحديث .

                                                        فإن حملت الحديث على ظاهره على ما تذهب إليه أنت ، لزمك ما ذكرنا ، من أن ذلك النكاح كان بالهبة التي وصفنا .

                                                        وإن حملت ذلك على التأويل على ما وصفت ، فلغيرك أن يحمله أيضا من التأويل على ما ذكرنا ، ثم لا تكون أنت بتأويلك أولى منه بتأويله .

                                                        فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار .

                                                        وأما وجهه من طريق النظر ، فإنا قد رأينا النكاح إذا وقع على مهر مجهول ، لم يثبت المهر ، ورد حكم المرأة إلى حكم من لم يسم لها مهرا ، فاحتيج إلى أن يكون المهر معلوما ، كما تكون الأثمان في البياعات معلومة ، وكما تكون الأجرة في الإجارات معلومة .

                                                        وكان الأصل المجتمع عليه ، أن رجلا لو استأجر رجلا على أن يعلمه سورة من القرآن سماها بدرهم ، لا يجوز ، وكذلك لو استأجره على أن يعلمه شعرا بعينه بدرهم كان ذلك غير جائز أيضا ؛ لأن الإجارات لا تجوز إلا على أحد معنيين :

                                                        إما على عمل بعينه ، مثل : غسل ثوب بعينه ، أو على خياطته ، أو على وقت معلوم لا بد فيها من أن يكون الوقت معلوما ، أو العمل معلوما .

                                                        وكان إذا استأجره على تعليم سورة ، فتلك إجارة لا على وقت معلوم ، ولا على عمل معلوم ، إنما استأجره على أن يعلمه ذلك ، وقد يتعلم بقليل التعليم وبكثيره ، وفي قليل الأوقات وكثيرها .

                                                        وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن ، لم يجز ذلك ، للمعاني التي ذكرناها في الإجارات .

                                                        فلما كان ذلك كذلك في الإجارات والبياعات ، وقد وصفنا أن المهر لا يجوز على أموال ولا على منافع ، [ ص: 20 ] إلا على ما يجوز عليه البيع والإجارة وغير ذلك ، وكان التعليم لا تملك به المنافع ولا أعيان الأموال ، ثبت بالنظر على ذلك أن لا يملك به الأبضاع .

                                                        فهذا هو النظر ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمة الله عليهم أجمعين .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية