الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4503 - حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني قبيصة بن ذؤيب ، أنه سمع زيد بن ثابت يقول : ( الطلاق إلى الرجل ، والعدة إلى المرأة ، إن كان الرجل حرا ، وكانت المرأة أمة ، فثلاث تطليقات ، والعدة : عدة الأمة حيضتان وإن كان عبدا وامرأته حرة ، طلق طلاق العبد تطليقتين ، واعتدت عدة الحرة ثلاث حيض ) .

                                                        فلما جاء هذا الاختلاف عنهم ، ثبت أنه لا يحتج في ذلك بقول أحد منهم ؛ لأنه متى احتج محتج في ذلك بقول بعضهم ، احتج مخالف عليه بقول مثله ، فارتفع ذلك كله أن يكون فيه حجة لأحد الفريقين على الفريق الآخر .

                                                        وكان من حجة من جعل الأقراء الحيض على مخالفه أن قال : فإذا كانت الأقراء الأطهار ، فإذا طلق الرجل [ ص: 63 ] المرأة وهي طاهرة ، فحاضت بعد ذلك بساعة ، فحسب ذلك لها قرء مع قرأين متتابعين ، كانت عدتها قرأين وبعض قرء ، وإنما قال الله عز وجل : ثلاثة قروء فكان من حجة من ذهب إلى أن الأقراء الأطهار في ذلك أن قال : ( فقد قال الله عز وجل : الحج أشهر معلومات ، فكان ذلك على شهرين وبعض شهر ، فكذلك جعلنا الأقراء الثلاثة على قرأين وبعض قرء ) .

                                                        فكان من حجتنا عليهم في ذلك أن الله عز وجل قال في الأقراء : ثلاثة قروء ، ولم يقل في الحج : ثلاثة أشهر ، وإن قال في ذلك ثلاثة أشهر ، فأجمعوا أن ذلك على شهرين وبعض شهر ، ثبت بذلك ما قال المخالف لنا ، ولكنه إنما قال : أشهر ، ولم يقل ثلاثة .

                                                        فأما ما حصره بالثلاثة ، فقد حصره بعدد معلوم ، فلا يكون أقل من ذلك العدد ، كما أنه لما قال : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن .

                                                        فحصر ذلك بالعدد ، فلم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد ، فكذلك لما حصر الأقراء بالعدد ، فقال : ثلاثة قروء فلم يكن ذلك على أقل من ذلك العدد .

                                                        وكان من حجة من ذهب إلى أن الأقراء الأطهار أيضا أن قال : لما كانت الهاء تثبت في عدد المذكر فيقال : ( ثلاثة رجال ) ، وتنتفي من عدد المؤنث ، فيقال : ( ثلاث نسوة ) فقال الله تعالى : ثلاثة قروء ، فأثبت الهاء ، ثبت أنه أراد بذلك مذكرا ، وهو الطهر لا الحيض .

                                                        فكان من الحجة عليهم في ذلك أن الشيء إذا كان له اسمان ، أحدهما مذكر والآخر مؤنث ، فإن جمع بالمذكر أثبتت الهاء ، وإن جمع بالمؤنث أسقطت الهاء .

                                                        من ذلك أنك تقول : ( هذا ثوب ، وهذه ملحفة ) ، فإن جمعت بالثوب قلت : ( ثلاثة أثواب ) ، وإن جمعت بالملحفة قلت : ( ثلاث ملاحف ) ، وكذلك ( هذه دار ، وهذا منزل ) لشيء واحد .

                                                        فكان الشيء قد يكون واحدا يسمى باسمين مختلفين أحدهما مذكر ، والآخر مؤنث ، فإذا جمع بالمذكر فعل فيه كما يفعل في جمع المذكر ، فأثبتت الهاء ، وإن جمع بالمؤنث فعل فيه كما يفعل في جمع المؤنث ، فأسقطت الهاء .

                                                        فكذلك الحيضة والقرء ، هما اسمان بمعنى واحد ، وهو الحيضة ، فإن جمع بالحيضة ، سقطت الهاء ، فقيل : ثلاث حيض ، وإن جمع بالقرء ، ثبتت الهاء فقيل ثلاثة قروء وذلك كله اسمان لشيء واحد ، فانتفى بذلك ما ذكرنا مما احتج به المخالف لنا .

                                                        وأما وجه هذا الباب من طريق النظر ، فإنا قد رأينا الأمة جعل عليها في العدة ، نصف ما جعل على الحرة .

                                                        فكانت الأمة إذا كانت ممن لا تحيض ، كان عليها نصف عدة الحرة ، إذا كانت ممن لا تحيض ، وذلك شهر ونصف ، [ ص: 64 ] فإذا كانت ممن تحيض جعل عليها - باتفاقهم - حيضتان ، وأريد بذلك نصف ما على الحرة ؛ ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو قدرت أن أجعلها حيضة ونصفا ، لفعلت ) .

                                                        فلما كان ما على هذه الأمة هو الحيض لا الأطهار ، وذلك نصف ما على الحرة ، ثبت أن ما على الحرة أيضا هو من جنس ما على الأمة ، وهو الحيض لا الأطهار .

                                                        فثبت بذلك قول الذين ذهبوا في القرء إلى أنها الحيض ، وانتفى قول مخالفهم ، وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمهم الله .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية