الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        4979 - واحتجوا في ذلك بما حدثنا أحمد بن داود ، قال : ثنا إبراهيم بن الحجاج ، ومحمد بن عون الزيادي ، قالا : ثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبي المنذر مولى أبي ذر ، عن أبي أمية المخزومي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص اعترف اعترافا ولم يوجد معه المتاع .

                                                        [ ص: 169 ] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما إخالك سرقت ، قال : بلى يا رسول الله ، فأعادها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثا . قال : بلى يا رسول الله ، فأمر به فقطع .

                                                        ثم جيء به ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل : أستغفر الله وأتوب إليه . قال : أستغفر الله وأتوب إليه ، ثم قال : اللهم تب عليه
                                                        .

                                                        ففي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعه بإقراره مرة واحدة حتى أقر ثانية .

                                                        فهذا أولى من الحديث الأول ؛ لأن فيه زيادة على ما في الأول .

                                                        وقد يجوز أن يكون أحدهما قد نسخ الآخر .

                                                        فلما احتمل ذلك رجعنا إلى النظر ، فوجدنا السنة قد قامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقر بالزنا أنه رده أربعا ، وأنه لم يرجمه بإقراره مرة واحدة وأخرج ذلك من حكم الإقرار بحقوق الآدميين التي يقبل فيها الإقرار مرة واحدة ، ورد حكم الإقرار بذلك إلى حكم الشهادة عليه .

                                                        فكما كانت الشهادة عليه غير مقبولة إلا من أربعة ، فكذلك جعل الإقرار به لا يوجب الجلد إلا بإقراره أربع مرات .

                                                        فثبت بذلك أن حكم الإقرار بالسرقة أيضا لذلك ، يرد إلى حكم الشهادة عليها .

                                                        فكما كانت الشهادة عليه لا يجوز إلا من اثنين ، فكذلك الإقرار بها لا يقبل إلا مرتين .

                                                        وقد رأيناهم جميعا لما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقر بالزنا لما هرب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا خليتم سبيله .

                                                        فكان ذلك عندهم على أن رجوعه مقبول ، واستعملوا ذلك في سائر حدود الله عز وجل ، فجعلوا من أقر بها ، ثم رجع قبل رجوعه ، ولم يخصوا الزنا بذلك دون سائر حدود الله .

                                                        فكذلك لما جعل الإقرار في الزنا لا يقبل إلا بعدد ما يقبل عليه من البينة ثبت أنه لا يقبل الإقرار بسائر حدود الله إلا بعدد ما يقبل عليها من البينة .

                                                        فأدخل محمد بن الحسن رحمه الله في هذا على أبي يوسف رحمه الله ، فقال : ( لو كان لا يقطع في السرقة حتى يقر بها سارقها مرتين لكان إذا أقر أول مرة ، صار ما أقر به عليه دينا ، ولم يجب عليه القطع بعد ذلك إذا كان السارق لا يقطع فيما قد وجب عليه بأخذه إياه دينا ) .

                                                        فكان من حجتنا لأبي يوسف رحمة الله عليه في ذلك ، أنه لو لزم ذلك أبا يوسف في السرقة للزم محمدا مثله في الزنا أيضا ، إذ كان الزاني في قولهم لا يحد فيما وجب عليه فيه مهرا ، كما لا يقطع السارق فيما قد وجب عليه دينا .

                                                        [ ص: 170 ] فلو كانت هذه العلة التي احتج بها محمد بن الحسن رحمه الله على أبي يوسف ، يجب بها فساد قول أبي يوسف رحمه الله في الإقرار بالسرقة للزم محمدا مثل ذلك في الإقرار بالزنا .

                                                        وذلك أنه لما أقر بالزنا مرة لم يجب عليه حد ، وقد أقر بوطء لا يحد فيه بذلك الإقرار ، فوجب عليه مهر ، فلا ينبغي أن يحد في وطء قد وجب عليه فيه مهر .

                                                        فإذا كان محمد رحمه الله لم يجب عليه بذلك حجة في الإقرار بالزنا ، فكذلك أبو يوسف رحمه الله ، لا يجب عليه بذلك حجة في الإقرار بالسرقة .

                                                        وقد رد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أقر عنده بالسرقة مرتين .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية