الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        5587 - حدثنا حسين بن نصر قال : سمعت يزيد بن هارون قال : أخبرني حماد بن سلمة ، عن عكرمة بن خالد المخزومي ، عن ابن عمر أن رجلا اشترى نخلا قد أبرها صاحبها ، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه أن الثمرة لصاحبها الذي أبرها إلا أن يشترط المشتري .

                                                        قال أبو جعفر : فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآثار ، ثمر النخل لبائعها إلا أن يشترطها مبتاعها ، فيكون له باشتراطه إياها ، ويكون بذلك مبتاعا لها .

                                                        وقد أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - هاهنا ، بيع ثمرة في رءوس النخل قبل بدو صلاحها .

                                                        [ ص: 27 ] فدل ذلك أن المعنى المنهي عنه في الآثار الأول خلاف هذا المعنى . فإن قال قائل : إن ما أجيز ، هو بيع الثمر في هذه الآثار ، لأنه مبيع مع غيره ، وليس في جواز بيعه مع غيره ما يدل على أن بيعه وحده كذلك ، لأنا قد رأينا أشياء تدخل مع غيرها في البيعات ، ولا يجوز إفرادها بالبيع . من ذلك ، الطرق والأفنية ، تدخل في بيع الدور ، ولا يجوز أن تفرد بالبيع .

                                                        فجوابنا في ذلك - وبالله التوفيق - أن الطرق والأفنية ، تدخل في البيع ، وإن لم يشترط ، ولا يدخل الثمر في بيع النخل إلا أن يشترط .

                                                        فالذي يدخل في بيع غيره ، لا باشتراط ، هو الذي لا يجوز أن يكون مبيعا وحده . والذي لا يكون داخلا في بيع غيره إلا باشتراط ، هو الذي إذا اشترط ، كان مبيعا ، فلم يجز أن يكون مبيعا مع غيره إلا وبيعه وحده جائزا . ألا يرى أن رجلا لو باع دارا ، وفيها متاع ، أن ذلك المتاع لا يدخل في البيع وأن مشتريها لو اشترطه في شرائه الدار ، صار له باشتراطه إياه . ولو كان الذي في الدار خمرا أو خنزيرا ، فاشترطه في البيع ، فسد البيع .

                                                        فكان لا يدخل في شرائه الدار باشتراطه في ذلك ، إلا ما يجوز له شراؤه . ولو اشترى وحده ، وكان الثمر الذي ذكرنا يجوز له اشتراطه مع النخل ، فلم يكن ذلك ، إلا لأنه يجوز بيعه وحده . أولا يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذا الحديث ، وقرنه مع ذكره النخل : " من باع عبدا له مال ، فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع " . فجعل المال للبائع ، إذا لم يشترطه المبتاع ، وجعله للمبتاع باشتراطه إياه ، وكان ذلك المال لو كان خمرا أو خنزيرا ، فسد بيع العبد ، إذا اشترطه فيه . وإنما يجوز أن يشترط مع العبد من ماله ، ما يجوز بيعه وحده ، فأما ما لا يجوز بيعه وحده ، فلا يجوز اشتراطه في بيعه ، لأنه يكون بذلك مبيعا ، وبيع ذلك الشيء لا يصلح ، فذلك أيضا دليل صحيح على ما ذكرنا في الثمرة الداخلة في بيع النخل بالاشتراط ، أنها الثمار التي يجوز بيعها على الانفراد ، دون بيع النخل .

                                                        فثبت بذلك ما ذكرنا ، وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف - رحمة الله عليهما - .

                                                        وكان محمد بن الحسن يذهب إلى أن النهي الذي ذكرناه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول هذا الباب ، هو بيع الثمر ، على أن يترك في رءوس النخل ، حتى يبلغ ويتناهى ، وحتى يجد ، وقد وقع البيع عليه قبل التناهي ، فيكون المشتري قد ابتاع ثمرا ظاهرا ، وما ينميه نخل البائع بعد ذلك إلى أن يجد ، فذلك باطل . قال : فأما إذا وقع البيع بعدما تناهى عظمه ، وانقطعت زيادته ، فلا بأس بابتياعه واشتراط تركه إلى حصاده وجداده .

                                                        [ ص: 28 ] قال : فإنما وقع النهي عن ذلك ، لاشتراطه الترك لمكان الزيادة . قال : وفي ذلك دليل على أن لا بأس بذلك الاشتراط في ابتياعه ، بعد عدم الزيادة .

                                                        حدثني سليمان بن شعيب بهذا ، عن أبيه ، عن محمد .

                                                        وتأويل أبي حنيفة ، وأبي يوسف في هذا أحسن عندنا ، والله أعلم .

                                                        والنظر أيضا يشهد له ، لأنه إذا وقع البيع على الثمار بعد تناهيها ، على أن تترك إلى الحصاد ، فالنخل هاهنا مستأجرة ، ليكون الثمار فيها إلى وقت جدادها عنها ، وذلك لو كان على الانفراد ، لم يجز ، فإذا كان مع غيره ، فهو أيضا كذلك . وقد قال قوم : إن النهي الذي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، لم يكن منه على تحريم ذلك ، ولكنه كان على المشورة عليهم بذلك لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه ، ورووا ذلك عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية