الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخلاف في الصدقات المحرمات

( قال الشافعي ) رحمه الله : فخالفنا بعض الناس في الصدقات المحرمات وقال من تصدق بصدقة محرمة وسبلها فالصدقة باطل وهي ملك للمتصدق في حياته ولوارثه بعد موته قبضها من تصدق بها عليه ، أو لم يقبضها وقال لي بعض من يحفظ قول قائل هذا : إنا رددنا الصدقات الموقوفات بأمور قلت له وما هي ؟ فقال قال شريح جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحبس فقلت له وتعرف الحبس التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقها ؟ قال لا أعرف حبسا إلا الحبس بالتحريم فهل تعرف شيئا يقع عليه اسم الحبس غيرها ؟

( قال الشافعي ) فقلت له أعرف الحبس التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقها وهي غير ما ذهبت إليه وهي بينة في كتاب الله عز وجل قال اذكرها قلت : قال الله عز وجل { ما جعل الله من بحيرة ، ولا سائبة ، ولا وصيلة ، ولا حام } فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها فأبطل الله شروطهم فيها وأبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال الله إياها وهي أن الرجل كان يقول : إذا نتج فحل إبله ثم ألقح فأنتج منه هو حام أي قد حمى ظهره فيحرم ركوبه ويجعل ذلك شبيها بالعتق له ويقول في البحيرة والوصيلة على معنى يوافق بعض هذا ويقول لعبده أنت حر سائبة لا يكون لي ، ولاؤك ، ولا علي عقلك قال : فهل قيل في السائبة غير هذا ؟ فقلت نعم قيل إنه أيضا في البهائم قد سيبتك ( قال الشافعي ) فلما كان العتق لا يقع على البهائم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك البحيرة والوصيلة والحام إلى مالكه وأثبت العتق وجعل الولاء لمن أعتق السائبة وحكم له بمثل حكم النسب ، ولم يحبس أهل الجاهلية علمته دارا ولا أرضا تبررا بحبسها ، وإنما حبس أهل الإسلام ( قال الشافعي ) فالصدقات يلزمها اسم الحبس وليس لك أن تخرج مما لزمه اسم الحبس شيئا إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على ما قلت وقلت أخبرنا سفيان عن عبد الله بن عمر بن حفص العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر { أن عمر بن الخطاب ملك مائة سهم من خيبر اشتراها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أصبت مالا لم أصب مثله قط ، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عز وجل فقال حبس الأصل ، وسبل الثمرة } .

( قال الشافعي ) وأخبرني عمر بن حبيب القاضي عن عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر { بأن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله إني أصبت مالا من خيبر لم أصب مالا قط أعجب إلي أو أعظم عندي منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت حبست أصله وسبلت ثمره } فتصدق به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم حكى صدقته به .

( قال الشافعي ) فقال : إن كان هذا ثابت فلا يجوز إلا أن يكون الحبس التي أطلق غير الحبس التي أمر بحبسها قلت هذا عندنا ، وعندك ثابت ، وعندنا أكثر من هذا ، وإن كانت الحجة تقوم عندنا ، وعندك بأقل [ ص: 55 ] منه قال فكيف أجزت الصدقات المحرمات ، وإن لم يقبضها من تصدق بها عليه ؟ فقلت اتباعا وقياسا فقال : وما الاتباع ؟ فقلت له لما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماله فأمره أن يحبس أصل ماله ويسبل ثمره دل ذلك على إجازة الحبس وعلى أن عمر كان يلي حبس صدقته ويسبل ثمرها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لا يليها غيره ، قال : فقال : أفيحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم حبس أصلها وسبل ثمرها اشترط ذلك ؟ قلت نعم والمعنى الأول أظهرهما وعليه من الخبر دلالة أخرى قال وما هي ؟ قلت إذا كان عمر لا يعرف وجه الحبس أفيعلمه حبس الأصل وسبل الثمر ويدع أن يعلمه أن يخرجها من يديه إلى من يليها عليه ولمن حبسها عليه ; لأنها لو كانت لا تتم إلا بأن يخرجها المحبس من يديه إلى من يليها دونه ، كان هذا أولى أن يعلمه ; لأن الحبس لا يتم إلا به ، ولكنه علمه ما يتم له ، ولم يكن في إخراجها من يديه شيء يزيد فيها ، ولا في إمساكها يليها هو شيء ينقص صدقته ، ولم يزل عمر بن الخطاب المتصدق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يلي فيما بلغنا صدقته حتى قبضه الله تبارك وتعالى ، ولم يزل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلي صدقته بينبع حتى لقي الله عز وجل ، ولم تزل فاطمة عليها السلام تلي صدقتها حتى لقيت الله تبارك وتعالى .

( قال الشافعي ) أخبرنا بذلك أهل العلم من ولد فاطمة وعلي وعمر ومواليهم ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا ينقل ذلك العامة منهم عن العامة لا يختلفون فيه ، وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكما وصفت لم يزل يتصدق بها المسلمون من السلف يلونها حتى ماتوا وأن نقل الحديث فيها كالتكلف ، وإن كنا قد ذكرنا بعضه قبل هذا .

فإذا كنا إنما أجزنا الصدقات ، وفيها العلل التي أبطلها صاحبك بها من قول شريح جاء محمد بإطلاق الحبس بأنه لا يجوز أن يكون مال مملوكا ثم يخرجه مالكه من ملكه إلى غير مالك له كله إلا بالسنة واتباع الآثار فكيف اتبعناهم في إجازتها وإجازتها أكثر ونترك اتباعهم في أن يحوزها كما حازوها ، ولم يولوها أحدا ؟ فقال : فما الحصة فيه من القياس ؟ قلت له لما { أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحبس الأصل أصل المال وتسبل الثمرة } دل ذلك على أنه أجاز أن يخرجه مالك المال من ملكه بالشرط إلى أن يصير المال محبوسا لا يكن لمالكه بيعه ، ولا أن يرجع إليه بحال كما لا يكون لمن سبل ثمره عليه بيع الأصل ، ولا ميراثه فكان هذا مالا مخالفا لكل مال سواه ; لأن كل مال سواه يخرج من مالكه إلى مالك فالمالك يملك بيعه وهبته ويجوز للمالك الذي أخرجه من ملكه أن يملكه بعد خروجه من يديه ببيع وهبة وميراث وغير ذلك من وجوه الملك ويجامع المال المحبوس الموقوف العتق الذي أخرجه مالكه من ماله بشيء جعله الله إلى غير ملك نفسه ، ولكن ملكه منفعة نفسه بلا ملك لرقبته كما ملك المحبس من جعل منفعة المال له بغير ملك منه لرقبة المال وكان بإخراجه الملك من يديه محرما على نفسه أن يملك المال بوجه أبدا كما كان محرما أن يملك العبد بشيء أبدا فاجتمعا في معنيين ، وإن كان العبد مفارقه في أنه لا يملك منفعة نفسه غير نفسه كما يملك منفعة المال مالك ، وذلك أن المال لا يكون مالكا إنما يملك الآدميون ، فلو قال قائل لماله أنت حر لم يكن حرا ، ولو قال أنت موقوف لم يكن موقوفا ; لأنه لم يملك منفعته أحدا ، وهو إذا قال لعبده أنت حر ، فقد ملكه منفعة نفسه فقال قد قال فيها فقهاء المكيين وحكامهم قديما وحديثا ، وقد علمنا أنهم يقولون قولك ، وأبو يوسف حين أجاز الصدقات قال قولك في أنها تجوز ، وإن وليها صاحبها حتى يموت واحتج فيها بأنه إنما أجازها اتباعا وأن المتصدقين بها من السلف ولوها حتى ماتوا ، ولكنا قد ذهبنا فيها وبعض البصريين إلى أن الرجل إن لم يخرجها من [ ص: 56 ] ملكه إلى من يليها دونه في حياته لمن تصدق بها عليه كانت منتقضة وأنزلها منزلة الهبات ، وتابعنا بعض المدنيين فيها وخالفنا في الهبات .

( قال الشافعي ) فقلت له قد حفظنا عن سلفنا ما وصفت وما أعرف عن أحد من التابعين أنه أبطل صدقة بأن لم يدفعها المتصدق بها إلى وال في حياته وما هذا إلا شيء أحدثه منهم من لا يكون قوله حجة على أحد وما أدري لعله سمع قولكم ، أو قول بعض البصريين فيه فاتبعه فقال وأنا أقوم بهذا القول عليك قلت له هذا قول تخالفه فكيف تقوم به ؟ قال أقوم به لمن قاله من أصحابنا وأصحابك فأقول إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نحل عائشة جداد عشرين وسقا فمرض قبل أن تقبضه فقال لها : لو كنت خزنتيه وقبضتيه كان لك ، وإنما هو اليوم مال الوارث ، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها فإن مات أحدهم قال مال أبي نحلنيه ، وإن مات ابنه قال مالي وبيدي لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد حتى يكون إن مات أحق بها " وأنه شكا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه قول عمر فرأى أن الوالد يجوز لولده ما داموا صغارا ، فأقول إن الصدقات الموقوفات قياسا على هذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية